قراءة في كتاب تدمير التراث الثقافي كسلاح حرب، داعش في سوريا والعراق
التدمير المنهجي للتراث، تدمير للهوية واخلال بالسلم الأهلي على المدى البعيد
بقلم كلكامش نبيل - العراق في التاريخ
يعتمد كتاب "تدمير التراث الثقافي كسلاح حرب، داعش في سوريا والعراق"( اضغط هنا ) للباحثة الدكتورة هيلغا توركو، والصادر عن دار بالغريف ماكميلان عام 2018، على الجهود البحثية للكاتبة خلال السنوات الثلاث الماضية في مجال التراث والأمن.
يتطرق الكتاب لحقيقة نجاة المواقع التراثية التي تعرضت للتدمير في العراق وسوريا طوال ألفي عام سبقت ظهور تنظيم داعش، ولكنه يذكرنا بأن لممارسة تدمير التراث جذور قديمة في التاريخ. لكن توركو تشدد على أن تنظيم داعش قد قام بحملة شاملة للتدمير، بدءً باعتقال عالم الآثار السوري الشهير خالد الأسعد، البالغ من العمر 82 عاما في حينها، ورائد التنقيبات في تدمر، وتعذيبه وقتله بصورة وحشية بعد رفضه الكشف عن أماكن الكنوز في الموقع. أعقب ذلك قيام التنظيم بتفجير معابد بعلشمين وبعل والابراج الجنائزية في وادي القبور وقوس النصر الروماني وأجزاء من المسرح الروماني في تدمر. وتعرضت عشرات المواقع الاثرية للتخريب في العراق، حيث تم تجريف زقورة النمرود – كلخ الآشورية - وتقليل ارتفاعها من 50 متر الى 10 أمتار فضلا عن إزالة الثيران المجنحة في قصر الملك آشورناصربال الثاني بالاضافة لتجريف القصر نفسه جزئيا.
محو الآخر وقتل فرص السلام
تشير الكاتبة الى أن ممارسات داعش ليست جديدة في عالم الحروب، لكن تقنياته تكشف تصرفات مرضية متطرفة من نوع جديد تجاه التراث، حيث أن التدمير لم يكن ناتج عرضي للصراع المسلح بل أداء مخطط له مع تصوير معقد للتدمير يهدف الى نشر رؤية داعش وبثها للكراهية. استهدف تنظيم ادعش التراث من أجل الهيمنة ومحو "الآخر"، فكان استهداف تراث الآخرين وتاريخهم وذاكرتهم وسيلة لمحو الهوية وقدرة المجموعات السكانية على البقاء.
تكتب توركو، "الهدف من تلك العمليات محو أي أثر للثقافة والفن والدين الذي لا يتماشى مع نظرة داعش للعالم. تمثل هذه الهجمات على التراث الثقافي تهديدًا مباشرًا للأمن على المدى البعيد في المنطقة وخارجها لأن الماضي المشترك طريقة مهمة لتقريب العناصر المجتمعية المنقسمة. كما ان التطلع إلى ماضٍ يبعث على الفخر وتبني قيم مشتركة يمكن ان يساعد في اعادة بناء دول فاعلة في العراق وسوريا". وتستشهد الكاتبة برأي الروائي التشيكي ميلان كونديرا بخصوص تدمير التراث وقوله، "الخطوة الأولى لتذويب أي شعب هي أن تمحو ذاكرته: تدمير كتبه وثقافته وتاريخه". وتؤكد توركو بشكل متكرر على أهمية الذاكرة والتاريخ المشتركين في ايجاد أرضية مشتركة للحكم تدعم فكرة الدولة وقدرتها على البقاء.
وجد تقرير من العام 2016 بأن 39 في المائة من المناطق التي تعرضت للتدمير في شمال العراق مواقع شيعية، فيما كانت نسب المواقع الصوفية 17 في المائة، و8 في المائة من المواقع السُنية. ومن بين كل ما تعرض للتدمير، تشكل المواقع التاريخية القديمة 3 في المائة فقط.
تشير توركو الى أن "حماية التراث، الملموس وغير الملموس، لا يمكن فصله عن حماية حياة البشر، ويجب أن يكون جزء مكمّل للجهود الانسانية وجهود بناء السلام"، وهو سؤال تردّد كثيرا في فترة تعرض المواقع الآثارية للتخريب حول جدلية انقاذ التراث او أنه يمثل شيء أقل أهمية من حياة البشر.
بحسب الكاتبة، كان التنظيم الارهابي يسعى لالغاء الحدود الوطنية والثقافة والشعور الوطني والقومي. وبذلك كان تصوير داعش لتلك الفظائع وسيلة لنشر أيديولوجيتها بين مناصريها وطريقة لاثبات انتصارهم على قيم الآخرين، واثبات لقيامهم بتغيير التاريخ.
عمليات نهب خلف ستار التدمير
يشير الكتاب الى تورط التنظيم الارهابي في عمليات نهب الآثار والاتجار بها، ففي أيار/ مايو 2015، داهمت القوات الأميركية الخاصة مخبأ أبو سيّاف، المسؤول المالي الكبير للتنظيم والذي كان يعرف باسم أمير الغاز والنفط في داعش. خلال الحملة، اكتشفت القوات الأميركية أدلة على نهب مواقع أثرية وأخرى تؤكد بأن التنظيم لم يقم بتدمير التراث الثقافي بشكل منهجي فحسب بل أنه انخرط في نهب وتهريب الآثار. ففي تلك المداهمة، تم العثور على صورة لنحت بارز حجري في تطبيق واتس آب في هاتفه، وهو ما يثبت استخدام الارهابيين لوسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع مشترين محتملين أو عصابات منظمة لبيع الآثار المنهوبة دوليا.
في الغالب، تمتاز أسواق الآثار بكونها صبورة ويمكن ان يتم حفظ القطع المنهوبة لمدة عقود قبل أن تظهر الى الأسواق الرسمية (بعد ان يتم نسبها لمصدرٍ ما). ويعتقد البعض بأن الآثار المنهوبة تحفظ في "موانئ حرة" في سويسرا. يذكر الآثاري ماركوس هليغرت بأن الفن الاسلامي غالبا ما يتم تسويقه لمنطقة الخليج، فيما يتم تسويق القطع من عصور ما قبل الإسلام في أوروبا وأميركا الشمالية.
وتذكر الباحثة بأن صور الاقمار الصناعية في الفترة ما بين آب/ أغسطس 2011 وآذار/ مارس 2014، أظهرت قيام العصابات بحفر 165 موقع نهب غير رسمي في مملكة ماري قرب ألبوكمال في سوريا. لكن، وفي فترة قصيرة من سيطرة تنظيم داعش، اظهرت الاقمار الصناعية في الفترة من 25 آذار وحتى 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، حفر 1286 موقع جديد في ذات المنطقة.
بعد نشر فيديو تدمير متحف الموصل، أشار الخبراء الى ان بعض التماثيل في الفيديو كانت عبارة عن نسخ جبسية وان التنظيم قد سرق القطع الأصلية القيمة لبيعها في السوق السوداء. وقد جرى سيناريو مماثل في النمرود، حيث زعم رجال من القبائل المحلية بأن تنظيم داعش "جاء الى المدينة الاثرية ونهب القطع القيمة قبل البدء بتسوية الموقع مع الارض".
كما تذكر الكاتبة العديد من الأدلة على اتجار تنظيم داعش بالآثار واستخدام العائدات في تمويل الارهاب في سوريا والعراق وشن هجمات في أوروبا، ولكن تقدير حجم تلك العائدات يبقى صعبا وأمر يخضع للتقديرات ليس إلا.
تدمير التراث عبر التاريخ
ترى الباحثة بأن "تاريخ الفن هو تاريخ السرقات بحق". وفي استعراضها لممارسات تدمير التراث في التاريخ، ترى توركو بأن ما ذكره مكيافيللي في أن الطريقة الأكثر أمنا لجعل البلاد التي احتلتها روما تخضع للسيطرة الرومانية تكمن في تدمير تلك المدن، ويوضح بأن ذكريات حريتهم السابقة ستساعد في توحيد تلك الشعوب للثورة ضد القوة المحتلة، وترى بأن المتطرفين الحاليين أخذوا تلك الصفحة من كتاب الأمير ونفذوها في حملتهم الشاملة للتدمير سعيا لتحقيق أهدافهم السياسية.
وتشمل الأحداث المشابهة في التاريخ: تدمير الملك الأخميني أحشويرش المنهجي لرموز الهوية البابلية وقتله لكهنة معبد إي-ساكيلا في بابل وتذويبه لتمثال الإله مردوخ – وهو تمثال ذهبي ارتفاعه 18 قدم، ونهب الرومان وتدميرهم للمدن التي قاموا باحتلالها وتدمير تيطس للهيكل الثاني في أورشليم بعد قمع الثورة اليهودية ضد روما عام 66 ميلادية، وحملة نابليون لنهب الفن الإيطالي من المتاحف والكنائس والمجموعات الخاصة وتعيين موظف مرتبط بالجيش لجمع تلك التحف واللوحات والقطع الأثرية ونقلها الى باريس، وأخيرا سيطرة النازيين على 250 ألف قطعة فنية، أي خمس جميع الأعمال الفنية الغربية في وقتها.
كما هو الحال مع داعش، استفاد النازيون من بيع الأعمال المنهوبة. ففي عام 1938، أمرت لجنة المصادرة الألمانية ببيع ما اعتبره هتلر "فن مسيء" بهدف الحصول على العملة الاجنبية. لكن، وعلى الرغم من عرض 16,000 قطعة فنية للبيع في ميونخ، لم تنجح اللجنة في بيعها، وبهدف جذب الانتباه، قاموا بحرق 4,829 قطعة فنية في ساحة قسم الاطفاء ببرلين. صدم ذلك محبي الفنون فجاءوا لشراء بعض القطع الفنية، وبذلك اشترى متحف بازل في سويسرا اعمال فنية بقيمة 50,000 فرانك سويسري. وبذلك، لم يقتل النازيون 90 في المائة من يهود بولندا فحسب، بل قاموا بتدمير 70 في المائة من كتبهم، ولاسيما احراق المكتبة التلمودية الكبرى في لوبلن ببولندا.
شهدت يوغسلافيا السابقة حملة ممنهجة لتدمير التنوع الثقافي والديني بهدف خلق دولة "نقية عرقيا". ففي البوسنة والهرسك، تم تدمير 1200 جامع و150 كنيسة و4 كنس يهودية وأكثر من 1000 مؤسسة ثقافية أخرى، بما في ذلك المتاحف والمكتبات والمحفوظات ومجاميع المخطوطات بشكل منهجي. يتطرق الكتاب بالطبع الى قيام طالبان بتدمير تمثالي بوذا في باميان ومهاجمة المتحف الوطني في أفغانستان ومجموعة تضم اكثر من 2500 قطعة فنية.
تسييس التراث والجناة الآخرين
تناقش الكاتبة مسألة تورط الأنظمة الحاكمة في تدمير المواقع الأثرية، الى جانب تنظيم داعش، وتتساءل عما اذا كان في الإمكان تبرير الهجمات من هذا النوع بدواعي عسكرية. وتذكر بأن المواقع الستة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي في سوريا قد تدمرت بشكل كامل أو تضررت بفعل القتال والهجمات المتعمدة. وتذكر بأن مدينة حلب القديمة قد تدمرت أثناء الحرب الأهلية، وأن من بين العديد من المواقع التاريخية، قام نظام الأسد بقصف الجامع الأموي الكبير وقلعة حلب وحي الجديدة، وكل المتاحف الرئيسية في المدينة. يسرد الكتاب أمثلة عن تبرير قصف المواقع التاريخية لدواعي عسكرية في افغانستان ويوغسلافيا السابقة والبوسنة وغيرها.
تتحدث الكاتبة عن تسييس اعادة الاعمار أيضا وتتطرق للدور الروسي في تدمر واعادة افتتاح قلعة حلب والسوق القديم في حمص – وعمره 3500- 4000 عام – وتوقف المشروع الممول من برنامج الأمم المتحدة الانمائي بعد ستة أشهر لتفضيلهم انفاق الأموال على البنى التحتية الأساسية. وتطرقت ايضا لانقسام السكان حيال اعادة اعمار السوق بسبب مساهمة التجار في دعم التمرد ضد الحكومة وان مثل هذا الاعمار بمثابة مكافأة لهم على ما قاموا به.
في الكتاب، اشارات مهمة الى مخاطر استخدام التراث من قبل الأنظمة الحاكمة – لاسيما في العراق وسوريا - كوسيلة سياسية وربط السكان لتلك المواقع مع الانظمة ورفضهما معا عندما تسود حالة من السخط.
حماية التراث وسيلة لتحقيق السلم الأهلي
يرى الكتاب بأن حماية التراث الثقافي يجب أن يكون جزءً من الأجندة الأمنية قصيرة وطويلة الأمد في مناطق النزاع لأن التاريخ والثقافة عناصر أساسية للهوية وعناصر مهمة في روايات المصالحة الوطنية. وتشير الكاتبة بأن تدمير التراث ليس خسارة للمنطقة او الإنسانية فحسب، بل سبب لاستمرار انعدام الجذور والنزاع.
يعتبر الحفاظ على التنوع الثقافي من حقوق الانسان المعترف بها، بحسب الكاتبة، ويتوجب على الدول حماية وضمان احترام التراث الثقافي. ولذلك تسهب الكاتبة في وصف أهمية التراث والمواقع الأثرية والمتاحف والآثار المادية في تشكيل الهوية ونشر قيم التسامح والتفاهم وخلق مشتركات للأمم وهويتها، وتذكر، "عندما ينتهي الصراع المستمر، سيكون من المهم معالجة قضية الهوية المشتركة والأساطير المؤسسة لبناء مجتمعات أكثر سلما. ولا يعتبر التراث الثقافي مصدر للمعرفة ذو قيمة جمالية فحسب، بل أنه مفيد أيضا للأغراض السياسية".
يتطرق الكتاب لسرد المعاهدات والاتفاقيات ومذكرات التفاهم الدولية الموقعة بهدف حماية التراث، بما في ذلك اتفاقية جنيف لعام 1949، التي تمنع نهب التراث الثقافي وكل الاعمال العدائية ضد المعالم التاريخية والاعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تمثل تراث ثقافي وروحي للشعوب، وحظر استخدامها لدعم الجهد العسكري. كما تعرج الكاتبة على ذكر الوسائل الدولية الساعية لحماية التراث، مثل قرار مجلس الأمن المرقم 2199، الذي تمت المصادقة عليه في شباط/ فبراير 2015، الذي يدين الاتجار مع المجاميع المرتبطة بالقاعدة، وبالنسبة للعراق يمتد المنع بالمتاجرة بأي شيء له صلة بتراثه الثقافي إلى 6 آب/ أغسطس 1990.
تختتم الكاتبة بقولها، "يعتبر التعليم، من خلال المؤسسات والاعلام، وسيلة قوية لتعزيز الهوية وخلق ثقافة التكامل والتقبل. أمام العراق وسوريا وغيرها من الدول التي تشهد اضطرابات مهمة صعبة لخلق الترابط الاجتماعي في مجتمعاتها المنقسمة بشكل عميق. يتطلب اعادة بناء الدولة بعد صراع طويل انخراط كل من المثقفين والمؤرخين والمجتمع المدني والسياسيين في عملية تكاملية يمكنها توجيه الأمة لتحقيق وجود أكثر سلما."
#Salam Taha
___________________________________________________________________________________________________
Comments powered by CComment