البيت المنسوب الى النبي ابراهيم في مدينة اورالعراقية القديمة في محافظة ذي قار بين السردية الدينية والعلم الآثاري.

عبدالسلام صبحي طـــه

 نشر المقال في مجلة الجديد اللندنية ( عدد آذار 2021 ), ( الرابط - أضغط هنا من فضلك ).

لتنزيل نسخة الكترونية بصيغة  pdf  اضغط هنا من فضلك

مجمع الابنية الحالي بعد الترميم و الذي يضم البيت المنسوب للنبي ابراهيم و أسس البناء الاصلي ترقى الى عصر( إيسن - لارسا 2000 - 1730 ق.م) 

 

(المقال لا يمس العقيدة الدينية وانما يحلل الوقائع بخصوص المنشأ المنسوب للنبي ابراهيم في مدينة ويستطلع أراء لنخبة من الاثاريين والمؤرخين) .

اعمال الترميم في الموقع(AH)      

إن صيانة أو ترميم أي مبنى أثري أو تراثي يجب أن تتم باستعمال مواد بنائية من نوعية ومواصفات مواد البناء الأصلية نفسها، والحال، ولكن المحزن في الأمر أن السلطات الآثارية العراقية آنذاك، ممثلةً بهيئة الآثار التي كان يرأسها ربيع القيسي، وربما بالتنسيق مع وزارة الثقافة والإعلام التي كان يرأسها آنذاك د. همام عبدالخالق، كانت قد شرعت بأعمال إعمار وترميمات سريعة لم تراع فيها الضوابط والسياقات المتعارف عليها في أعمال الترميم والصيانة الأثرية، وقد جرى اختيار بنايات في زاوية منعطف ضمن  منطقة تبلغ مساحتها تقريبا(حوالي 2200 متر مربع)، وتبعد مسافة 300 متر تقريباً عن الزقورة وتقع على زقاقين، وترقى زمنيا الى عصر (إيسن – لارسا، 2000 – 1730 ق.م). اطلق وولي على الموقع AH   اختصارا لـ( (Abraham House، وكانت بالاصل  مجمعاً يضم مدرسة ومعبداً صغيراً، كما جرى تبليط الممشى لتسهيل مسير الزوار، وأُطلق على هذه الدار “بيت النبي إبراهيم”.
جرى استخدام الطابوق الفني الحديث، الإسمنت ومواد حديثة أخرى في بناء هذا البيت، مما  نزع عنه صفة القدم أو الأثر. لقد شكل هذا البيت، بكل إشكالاته التاريخية والفنية، مشكلة وعقبة فنية كبرى واجهت محاولات قبول ملف أور من أجل ادارجها على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، بوصفها محمية تراثية عالمية، فقد اعتبر البيت في حالة “صيانة غير علمية وإضافة غير مدروسة”. في منطقة غير منقبة سابقاً، وقد أحدث بناؤه استياءً مدوياً في الأوساط الآثارية العالمية التي شجبت واستنكرت المساس بتراث مدينة أور، لأغراض وأجندات غير علمية.

 قبل الترميم

بعد الترميم

أسس وجدران البناء الأصلي لجزء من الموقع  قبل وبعد اعمال الترميم

تنقيبات اور

كان المنقّب البريطاني السير تشالرز ليونارد وولي (1880- 1960) قد ترأس إثني عشر موسماً  تنقيبا في اور ( 1922– 1934)، وأشار في أحد تقارير بعثته إلى أن خبير النقوش والكتابات في البعثة قد ترجم رقيماً مسمارياً عُثر عليه في إحدى الدور السكنية التي تبعد مئات الأمتار عن الزقورة، جرى تعريف الموقع في تقارير وولي بالرمزAH اختصاراً لــ (Abraham House ) منقوشا عليه الاسم “آبرامو”، كما عُثر في موقع المقبرة الملكية على تمثال لكبش مزخرف، ربما كان قاعدةً لطاولة في غرفة ملكية أو معبد، جرى ربطه  بكبش التضحية الوارد في قصة النبي إبراهيم. ويظهر من خلال تسلسل الأحداث أن وولي سرعان ما أبرق إلى مموليه من المتاحف والجامعات والجمعيات التوراتية عن هذا الكشف المبهر، وهو أمر جرى حوله الكثير من اللغط في الأوساط الآثارية آنذاك، وجرى تفنيد ترجمة الرقيم المسماري، بل والموضوع برمته لاحقًا. وفي كتابه المعنون “النبي إبراهيم”، الصادر عام 1936، تغيرت نبرة اليقين المتعلقة بالأمر لدى وولي، وحاول مسك العصا من الوسط من خلال توظيف تعابير لغوية تحتمل أوجه قراءة مختلفة، وهو أمر ربما يُفسَّر على أنه اتقاء لشر الاختلاف مع الجمعيات الدينية التي كانت قد ساهمت في تمويل جزء من حملاته التنقيبية في مدينة أور.

عدت إلى مذكرات الآثاري البريطاني ماكس مالوان (زوج الروائية الإنجليزية آجاثا كريستي)،وكان احد اعضاء البعثة التنقيبة في اور وعمل مع وللي في عدة مواسم هناك،  لأجد أن الالتباسات في التصريحات كانت الأساس في هذا الموضوع الذي ترسّخ وعلى نحو خاطئ منذ ذلك الوقت والى يومنا هذا، فقد أورد مالوان عن خبير النقوش آنذاك أنه ارتكب خطأً قرأ ما ظن أنه اسم “أبرامو”، قد ورد تفصيله اعلاه  في تلك المذكرات (منشورات الجمل، ص 67)، ومفاده أنه (أي مالوان) قد تسرع وقتها في الإبراق إلى صديق له في إنجلترا وذكر الاكتشاف، وحين علم مدير البعثة "وولي"  بالأمر وبخ مالوان بشدة، وجعله يبعث برقيةً ثانيةً الى الصديق ذاته يلتمس منه فيها الصمت حتى يحين وقت إعلان النبأ. ويعترف في النهاية بأن ذلك الوقت لم يحن أبدا.

لا بد من الإشارة إلى أن البعثات التنقيبية في مطلع القرن العشرين كانت تُموَّل جزئياً من قبل جمعيات  دينية رغبة منها في تأصيل القصص المتواردة في النصوص المقدسة. وربما كان مخيباً لأمال البعض منهم، بعد نجاح الآثاريين في فك وتحليل وترجمة النصوص المسمارية، والتي أثبتت حصول اقتباس مباشر وحرفي في بعض الأحيان للكثير من النصوص العراقية القديمة إلى كتب أحبار اليهود، وليس العكس كما كان مؤملاً.

نُشر العديد من البحوث والدراسات والكتب عن الموضوع في الغرب، وجرى تحري الحقيقة بأدوات البحث العلمي، التي ناقشت الامر من وجهات نظر جديرة بالاعتبار، ولكن لا يزال هنالك نوع من مسايرة أيديولوجية دعماً لمدارس عقائدية في الرأي، تحاول إحالة عائدية المنشأ الذي حدده وولي، إلى الشخصية الدينية الوارد ذكرها في العهد القديم باسم “أبراهام”، واعتباره مسقط رأسه، وان المدينة اور هي مسرح للاحداث التي وردت في إصحاحات سفر التكوين، والتي يرقى أقدم زمن لتدوينها إلى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، إذ شرع الكتبة اليهود المرحّلون الى بابل بتدوين سرديات التوراة، وقد استُكمل العمل بعد عودة قسم آخر منهم إلى فلسطين، إثر منحهم الإذن بالعودة من قبل الملك الفارسي الأخميني قورش، الذي احتل مدينة بابل عام 539 ق.م، فلو أن التاريخ المفترض لحضور النبي إبراهيم على مسرح الأحداث هو ما بين القرنين التاسع عشر والسابع عشر ق.م، بحسب مؤرخي العهد القديم ، فإن هذا سيترك مساحةً زمنيةً تتجاوز الخمسة عشر قرناً تقريباً ما بين الزمن المفترض للشخصية وما يرد عنها تدويناً في سفر التكوين، إذ لا بدّ بحسب هذا الافتراض القول بأنّ تناقل الأحداث قد جرى شفاهياً، مع الأخذ بنظر الاعتبار تبدّل اللغات والألسن، بل وحتى المواقع الجغرافية وأسماء الأماكن، مما سيشكل لبسًا بينًا لدى الباحثين كما سيجري عرضه لاحقاً.

(رسمة متخيلة لهجرة أبراهيم وأهله - بريشة الرسام الاميركي توم لوفيل )

اور الكلدان

كلمة اور تعني مدينة، وهي مشتقة من الأصل السومري (اوريم / شش - آب) والاكدي (اورو). كانت أور مدينةً مقدسةً لإله القمر (نانا أو ننار بالسومرية، وهو سين بالأكدية)، ومن أسمائها الأخرى “قامارينا”، ويُعتقد أنه مرتبط بالكلمة العربية “قمر”، مع أن كامارينا هو أيضاً اسم لمدينة قديمة في جزيرة صقلية. ذُكرت اور في العهد القديم تحت مسمى “أور الكلدان” وهو أمر فيه لبس واضح، يثبت أن عملية تدوين التوراة، أو توارد قصصها شفاهياً قد جرى خلال عصر الدولة البابلية الثانية (الكلدانية)، أي بعد الترحيل الثاني ليهود فلسطين الى بلاد بابل عام 583 ق.م على يد العاهل  البابلي العظيم نبو كودوري أوصّر الثاني (نبوخذ نصر في التوراة)، في حين أورد المدونون التوراتيون أن إبراهيم عاش خلال النصف الأول من الألف الثاني ق.م في عصر الدولة البابلية الأولى (الآمورية او دولة حمورابي).

وربما يعود السبب في  توصيف اور بالكلدانية (وكلمة كلدي بالأصل  تعني فلكي او منجم) من قبل مدوني النصوص التوراتية، ربما اتفق مع حقيقة أن أسلاف إبراهيم كانوا من عبدة الكواكب، وقد وردت هذه الفكرة على أساس احتمال كون اسم والد إبراهيم الوارد في التوراه هو (تارح أو تيراح) والمرتبط بالاسم العبري للقمر (ي- ر- ح)، من الجذر الأكدي “أرخُ” وتعني شهر والذي هو الاصل في كلمة “تاريخ”. على أيّ حال، يرد في المدونات اليهودية أن تيراح كان يعبد عدداً من الآلهة، ربما كان من بينها “إيل”، وأن ما قد حصل من اضطرابات كان بسبب الخلافات بين كهنة الإلهين “سين” و”إيل”، ويبدو أن عبادة القمر “سين” هي التي انتصرت في النهاية، فما كان من عبدة “إيل” إلا الهجرة شمالا، ولكن الحجة في هذا الخصوص لا تزال ضعيفة. ( من الجدير بالذكر أن اللقب الذي يُقرن بالنبي ابراهيم هو “خليل الله”، وهو من الجذر اللغوي الأكدي (خِل إيل) ويعني (الذي صادق الله وأخلص له)، كما ان جذر اسم ابنه النبي اسماعيل هو (سمع إيل اي سمع الإله).

أستطلاع أراء آثاريين ومؤرخين

ولكي يجري الفصل التام بين الرغبة في تطوير الموقع الأثري في أور، والمدرج على لائحة اليونسكو للمواقع التراثية العالمية منذ عام 2016، وبين زيارة شخصية بوزن الحبر الأعظم إلى موقع كهذا، فإن الجهد الإعلامي ينبغي أن يركز على تنشيط السياحة الآثارية، وتعميم المعرفة بتاريخ العراق الحضاري، مع الأخذ بعين الاعتبار ألاّ تغير زيارة كهذه من ثوابت علم الآثار وحقائق التاريخ على الأرض، ومن أجل ذلك فقد أجرينا استطلاعاً لآراء بعض من الآثاريين والمؤرخين العراقيين غايته التحقق من موضوع نسبة النبي إبراهيم إلى مدينة أور.

• في شتاء عام 2010 التقيت عالم الآثار العراقي الراحل د. بهنام أبوالصوف في عمّان، وكنت حينها أقوم بجمع مقالاته وبحوثه لنشرها على موقعه الإلكتروني، الذي كنت بصدد إطلاقه، ومن ضمن الحوارات عرجنا على موضوع بيت النبي إبراهيم في أور، فقال “ليس هنالك أيّ دليل آثاري على أن الدار التي تقع على بعد بضع مئات الأمتار من زقورة أور هي دار النبي إبراهيم، الوارد ذكره باسم “أبراهام” في العهد القديم، وإنما يرقى أصل هذه الدار إلى العصر الحضاري الذي يُطلق عليه (إيسن/لارسا)، ويمتد تقريباً من 2000 – 1730 ق.م، والذي ظن وولي حينها أن إبراهيم لا بد أن يكون قد عاش إبانه.

• الاستاذ د. عامر الجميلي من كلية الآثار في جامعة الموصل، من الباحثين المهتمين بالتراث الثقافي، صرح بالقول “لا أعتقد جازماً بأن مدينة أورالعراقية القديمة هي المدينة المفترضة مسقطاً لرأس النبي إبراهيم، لأنني أعتمد على المصادر لكي أبني يقيناً، لكنني شخصياً، بوصفي باحثاً في علم الآثار واللغات القديمة ومهتماً بتاريخ العراق والمنطقة وتراثها الثقافي، لا أعتقد جازماً بأن الدار أو مجموعة الدور في مدينة أور العراقية القديمة، والتي يجري تسويقها على أنها كانت سكنى للنبي إبراهيم، الوارد ذكره في الكتاب المقدس، هي بالفعل كذلك، فلم تصلنا أدلة كتابية وآثارية من بلاد الرافدين تؤيد الأحداث التي وردت في الكتاب المقدس عن شخصية باسم “أبراهام”، لكنني أظن أن شخصيةً كهذه، إن كانت قد عاشت، فلربما تكون في منطقة “أورفة أو الرها– حران”، وهي مدينة لها مشتركات كثيرة مع مدينة أور العراقية القديمة من جهة الاسم، وكذلك انتشار عبادة الإله القمر “سين”. والأهم هو الامتداد الجغرافي المرتبط بشمال إقليم حلب، إضافةً إلى المشتركات اللغوية والثقافية، مما يجعل إمكانية تحقق رحلة منها إلى المسار الذي ورد في العهد القديم أمراً مقبولاً، أضف إلى ذلك وجود خامة الحجارة والرخام في حران وأورهاي جنوب شرقي تركيا وانعدامه في أور (المگير) في جنوب العراق، لأن التقليد المحلي والمأثورات تشير إلى أن أبيه (آزر الوارد في النص القرآني) كان نحاتًا.

• ويعتقد الدكتور مؤيد سعيد الدامرجي، وقد ترأس المؤسسة الآثارية العراقية لعقدين من الزمن (1977 – 1998) ، أن قصة عائدية الدار المنسوبة إلى النبي إبراهيم في مدينة أور الأثرية في محافظة ذي قار غير دقيقة، وأن المنشأ الحالي المزعوم قد جرى بناؤه من الإسمنت والطابوق تزامناً مع زيارة البابا السابق يوحنا بولص الثاني في عقد التسعينات من القرن الماضي، والذي كان يعتزم زيارة أور أيضاً، وكانت الغاية تسويق فكرة المدينة كمسقط رأس للنبي إبراهيم، ومن خلال ذلك تجري حلحلة موضوع الحصار المفروض على العراق بتوظيف ثقل الفاتيكان في الدوائر السياسية الغربية آنذاك.
• ويعلق أحد الأساتذة في جامعة بغداد، طالباً عدم كشف اسمه، “لا يوجد بيت للنبي إبراهيم عليه السلام في أور، وكل ما يقال عن ذلك أكاذيب، ولو كان فيها شيء من الصحة لقلبوا الدنيا، ولكنّ آثارييهم ومؤرخيهم يعرفون بكل يقين كذب هذا الادعاء. كذلك فإن أحد أعضاء بعثة التنقيب، التي كانت تعمل في أور آنذاك، وهو ماكس ملوان، فضح ألاعيب رئيس الهيئة ليونارد وولي وزوجته المسيحية المتشددة في مذكراته التي نشرها، قائلاً إنهم أشاعوا ذلك الخبر مع قصة حفرة الطوفان لكي يتمكنوا من كسب أموال لتمويل عمل البعثة، ويضفوا على عملهم مسحة دينية. والآن اكتسبت تلك الكذبة مسحة سياسية دينية للسيطرة على المنطقة بحجة أنها أرض سكنها اليهود، وأنهم أحق بها، وقد حاول البابا السابق زيارة العراق في زمن النظام السابق، والذهاب إلى أور لزيارة بيت إبراهيم، إلا أن زيارته تلك رُفضت. ويريد البابا الحالي زيارة أور، ثم حران وفلسطين ومصر ليعيد طريق مسيرة إبراهيم، ويثبت نبوءة التوراة “من الفرات إلى النيل”.

• ويرى المؤرخ والباحث العراقي أ. د صلاح رشيد الصالحي أنه يوجد خلط تاريخي في الكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع، بدءاً من تحديد مدينة “أور الكلدان”، التي وردت في العهد القديم، إذ ربما جرى الخلط بين أور السومرية (تل المكير( و مدينة أورا = Ura او الرها) بالقرب من حران من قبل كتبة أسفار التوراة، ولذا فإن هنالك جمهوراً من العلماء يعتقد بأن بيت إبراهيم في الرها وليس في أور العراقية، التي لا يوجد فيها بيت كهذا إطلاقا، وإنما كانت محاولة من المنقب البريطاني ليونارد وولي في عشرينات القرن الماضي لتحقيق منجز يوازي اكتشاف هوارد كارتر لمقبرة توت عنخ آمون، فحاول تتويج كشفه المهم في مدينة أور بالإعلان عن تحديد بيت ضمن مجمع سكني أو إداري أحاله إلى النبي إبراهيم، مما أحدث ضجة في الأوساط الكنسية، التي كانت ترغب وبشدة في إثبات وجود إبراهيم، وامتداد الإرث اليهودي في العراق. إذ يرد في التوراة بأن “يهوه” منح الأرض (من الفرات إلى النيل)، ولإثبات هذا الوعد يسعى الباحثون في إسرائيل، ودعاة اليمين المسيحي المتطرف إلى اختلاق تاريخ مستوحى من التوراة وربطه مع ملوك العراق ومصر القدماء، ولذا أقولها صراحة إن وراء الزعم بوجود بيت لإبراهيم في أور هدف آخر بعيد.

• ويتساءل الآثاري العراقي د. قصي عبدالكريم التركي إن كان في اسم أبرام أو أبرماشارة إلى بيت إبراهيم النبي؟ ويوضح أن هذا الأمر غير مؤكد، ولا تدعمه الأدلة الكتابية أو الأثرية المادية، وقد يكون الاسم فعلا شائعاً ومستخدماً كاسم علم لأسماء من الأموريين القاطنين في مدينة أور، ولكن من دون تأكيد وجود علاقة بينه وبين اسم النبي إبراهيم، علماً أن كلاً من الإنكليزي ليونارد وولي، والإيطالي جيوفاني بيتناتو قد أشارا، وحاولا أن يثبتا وجود بيت للنبي إبراهيم في أور، لكن لا يقدمّا أي دليلٍ مقنع، سواء أكان كتابياً من النصوص المسمارية أم مادياً من المكتشفات الأثرية، ووجود ذكر لإبراهيم الخليل في أور لا يتعدى كتاب التوراة، مع بعض إشارات عند البلدانيين العرب.
• ومن كلية الآداب في جامعة البصرة، نطالع بحثًا للدكتور هاشم عادل علي بعنوان “مدينة كوثى (تل إبراهيم) مدينة النبي إبراهيم الخليل” يفنّد فيه الحجج المتعلقة بنسب النبي إبراهيم إلى مدينة أور السومرية كونها تقع غرب نهر الفرات، في حين ورد وصفها في التوراة على أنها تقع في شرقه. ويستعرض بعد ذلك التباعد الزمني بين أور السومرية في عصر السلالة الثالثة وتلك التي وردت بالوصف على أنها كلدانية، والمسافة الزمنية التي بينهما تربو على خمسة عشر قرناً. وينهي الدكتور عادل استنتاجه بالقول إن إبراهيم التوراتي كان آمورياً ( بدوياً) لا يمتّ بصلة إلى أور السومرية والتي كانت تعرف كغيرها من مدن بلاد سومر بــ( بلاد السادة المتحضرين) ، ثم يسقط الحجج التي تقول إن أور هي “أورها” قرب حران في جنوب تركيا الحالية، ذلك أن “أورها” كانت محض محطة قصيرة بحسب النص التوراتي، ولم تكن موطنه، وهي مدينة آرامية وليست كلدانية بدليل أنها ترد باسم “حقل الآراميين”، وأن النبي إبراهيم لا بد أن يكون آموريا لا آراميا، بدلالة أسماء أبنائه وأحفاده (إسماعيل، وإسرائيل/يعقوب) التي تنتهي بـ”إيل” وهو السياق الذي كان يستخدمه سكان بابل القديمة (الآموريون). ويصل الباحث إلى مستقر الرأي بالقول إن كان للنبي إبراهيم موطئ في أرض العراق فلا بد له أن يكون في كوثى – ربا بالقرب من بابل إلى الشرق من نهر الفرات، وهي من أعمال الكوفة (في العصر الإسلامي) وقد عُرفت بسرة السواد، ومستقر نبط العراق التي ولد فيها إبراهيم.

خاتمة

لابد لنا في النهاية من الاعتراف بأن أور ذات التراث العظيم الممتد إلى آلاف السنين من الخلق والإبداع في شتى مجالات الحياة، والتي رفدت مسيرة البشرية بمقومات وعناصر الحضارة المدنية، مدينة كهذه منحت التاريخ إسماً ومعنى ليست بحاجة إلى من يعرّف بها، من خلال إقحامها في روايات توراتية مثار جدل، وقد لا تصمد طويلاً أمام البحث العلمي الرصين. إنها لا تحتاج إلى من يسوّقها ضمن حزمة أكاذيب لرسم خرائط جديدة على الأرض ويتحول جراءها مبنى عادي إلى محج ديني مقدس، وربما يتجاوز الأمر ذلك بعد كذا عقد من الزمان ليجري اعتبار منطقة “سهل أور!” برمتها جزءاً من ثوابت السرديات الدينية وتأصيل ما لا أصل له إلاّ في مخيال كتبة السرديات ومن تبعهم،وما قد يترتب على ذلك مستقبلا من تغييرات ديموغرافية وسياسية.