د. زهير صاحب

الآنية الحَجرية - أور والوركاء

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 

إن التأمل الأسطوري الذي يُمثل (الجوهر) في خاصية التشفير الذي بَثّتهُ منظومة الأشكال المنحوتة على سطوح الآنية الحجرية من العصر السومري المبّكر (3200 ق.م)، هو مثابة طريقة للأدراك تكاد تكون أقرب إلى الرُؤيا

 

 





إن التأمل الأسطوري الذي يُمثل (الجوهر) في خاصية التشفير الذي بَثّتهُ منظومة الأشكال المنحوتة على سطوح الآنية الحجرية من العصر السومري المبّكر (3200 ق.م)، هو مثابة طريقة للأدراك تكاد تكون أقرب إلى الرُؤيا، فهي لم تكن مُجرد انشراح طليق للفكر يتجاهل الواقع، كونها تسمو على التجربة، لأنها تحاول تفسيرها وتنظيمها وتوحيدها، مثلما يفعل (العلم) في تنظيم فوضى الفكر المعاصر.

فالروح الأسطورية في مشاهد آنية (أور والوركاء) ما هي إلا نوع من المحاولات الفكرية الإبداعية، لوضع (دعامة) تحت (بَلبَلة) الفكر الاجتماعي، تُمكنّهُ من اكتشاف معالم بنائه وإظهار معالم تنسيقه، وإيضاح تماسكه ومعناه. وعليهِ فالتصوير الشعري في تركيب تلك المشاهد، الذي استحال الى منظومة من العلاقات الشكلية المتبادلة التفاعل، لم يكن سَرداً لقصص رمزية فحسب، بل كان (بلاغاً) شكلانياً، يتمثل إشكالات الفكر المُجردة. فمثل هذه الصُور لا يمكن فصلها عن الفكر، لأنها تمثل حالة الوعي الذي غَدت التجربة به واعية لذاتها.
فعلى السطح الخارجي لأحد آنية الحجارة الذي اكتشفته البعثة البريطانية في (أور) بالناصرية، والمحفوظ في المتحف العراقي حالياً، يَدور صف من الثيران المتضايفة مع شكل سنبلة القمح. فالتكوين الشكلي يتكون من مفردتين استعارهما الفنان من حشود مفردات مشهده الطبيعي، للتعبير عن إشكالات حاضنه الاجتماعي. فشكل الثور يَرمز الى فكرة قوة التناسل في نسق الفن، أما سنبلة القمح فإنها تُؤشر فعل الخصب والمردود الغذائي. فاستدعاء المفردتين يستند الى قيم موضوعية متحركة في الفكر الاجتماعي دون أدنى شك، إلا إنه في ملمح آخر، فأن فعل الاستدعاء لم يكن نَسخاً لواقع مُعطى، بل كشفاً لإرهاصات الفكر الاجتماعي، وبما يخبّئهُ من رغبات ومخاوف، بَثّهُ خطاب تشكيلي ذو دلالات رمزية، كانَ بمثابة (لغة) متداولة أو وسيلة للمثاقفة مع الآخر، مكنّت الفكر الإنساني لأن يُقّدم مقولته بما فيها من خبرات وأحاسيس.
إذ إن منظومة تلك الأشكال الرمزية، حُرّرت في التكوين النحتي من دلالاتها الطبيعية المألوفة، فأصبحت حرة من صيرورتها الطبيعية، لتؤدي فعلها في الوسط الحضاري كرموز ومفاهيم. فهي تشبه نفسها في القصدية الطبيعية، إلا إنها خارج حضورها الواقعي، إذ إنها عبارة عن تلخيص للمضامين التي تمثلها. فمثل تلك الرموز انتقلت بالموضوع من حدود الجزئيات إلى الكليات، لتفعّل خاصية تلقيها بتحويل منظوماتها الصورية، من خصائصها الفردية إلى الأعمام، لتؤكد في بنية الفن تكثيفها الرمزي في التشفير عن مقولة (قوة الحياة الابدية).
ولعل حركة الثيران وسنابل القمح حول بدن الأناء، أشبه بدحرجة الختم الأسطواني، الذي يؤكد بدايته ويغيب نهايته نحو اللامحدود من التأويلات، وكأن الرغبة في التكرار، نوع من الفعل السحري لتفعيل ظاهرة الخصب في الطبيعة. وكأن في التكوين شيئاً من روح (الأرابسك) الذي لا تحدّه حدود المساحات المُتاحة للنحت، إذ يدعو البصر والبصيرة معاً، لرسم خطوطه في تعالي المُتخيل، حيث (الماورائي) في فضاءه اللامحدود.
يَعُرض مشهد إناء حجري آخر، أُكتشف من قبل البعثة الألمانية في الوركاء، ومحفوظ في المتحف العراقي حالياً. صراع يدور حول بدنه، أبطاله زوج من الأسود وقد غَرست مخالبها في مؤخرتي زوج من الثيران. ولعل خاصية التركيب الرمزي في بنية المشهد، تتألف من منظومتين من الأشكال الرمزية، كانت تؤدي فعلها في بنية (النص) كدلالات أنظمة أضداد. فشكل الثور يُؤشر مفهوم قوة الحياة، أما الأسد فيرتبط بفكرة الفتك والقتل والدمار. والمعادلة برمتها تقوم على فكرة الصراع بين قوى الحياة وقوى الموت. فتلك المنظومة الرمزية من (التقابلات المُتضادة) احتفظت في زمانها ومكانها بقيم دينية، ودلالات تعبيرية مُتحركة في الفهم الاجتماعي، الذي لم يهتم بمظاهرها بعدّها مفردات من العالم المرئي، بل كان يُنقّب فيها عن أفكار كامنة خَلفَ المظاهر. لذلك تفترض خاصية النص تقصياً للجواهر الفكرية، وفي ذات الوقت تثير الاهتمام بتفعيل التقنية وسمات الأشكال التعبيرية.
والمُدهش في ذلك التكوين النحتي، هو أن الفنان قد وظّفَ زوجاً من أشكال الأسود، لحماية مَصب الأناء الحجري. إذ أنجزَ شكليهما بتقنية النحت المدور ووضعهما على جانبي مَصب الأناء. إننا إذ نحتفل بالتجديد التقني الذي أبدعه النحات بالمضايفة بين تقنيتي النحت البارز والمدور في نفس المشهد. فأن احتفالنا يمتد الى الأبداع الفكري الذي حَمّلَ شكل الأسد دلالتين رمزيتين في ذات المشهد. فرغم أن الأسد مَثّلَ دور الموت في المشهد السفلي، فأنه قَفزَ الى الأعلى لحماية مَصب الأناء (القَدَر) من أي مُتطفل خارجي قد تُسّول له نفسه محاولة المساس بمحتويات الأناء من السوائل السحرية الاحتفالية.
فالفن لدى الشعب السومري كالأخلاق، كونه يمتزج بفاعلية معقدة ومتشابكة يمكن أن نسميها فاعلية دينية. فصورة الثور بوصفه رمزاً مقدساً وكذا سنبلة القمح، الاكثر قدسية والأعظم في نجوعهما السحري من الكائن أو النبات ذاته في الطقوس السحرية الأسطورية، فهي تفعّل دلالات الأشكال الرمزية لتتعدى طبيعتها حين تدخل نسق الفن، لتصبح رموزاً مؤثرة في التلقي الاجتماعي للأفكار، فتربح تعددية (التشفير) بعد ان كانت واحدية الدلالة في عالمها الطبيعي. وبتضايف شكل الثور مع سنبلة القمح، أو إشراك الثور مع الأسد في صراع مُميت، فان في ذلك نوع من التركيب الرمزي، من شأنه إن يُفعّل تَشظية الدلالات لتعني الفحولة والتناسل والخصب والمطر والمحصول الوفير، أو ربما غرس الطمأنينة بديمومة الحياة في داخلية الأفراد، بكل ما في هذه الحالة من معنى، في مواجهة القلق الوجودي للشعب السومري.
والنموذج الثالث في نسق الآنية الحجرية، هو إناء منحوت من حجر رمادي اللون، ارتفاعه 14سم، اكتشفته البعثة الألمانية في مدينة الوركاء، ومحفوظ في المتحف العراقي حالياً. فهنا اُستبدلت تقنية النحت البارز بالتطعيم، إذ حُفِرَ على بدن الأناء شريطان متوازيان طُعّما بقطع من الأصداف الملونة بأشكال هندسية، يفصل بينهما زوج من العيون البشرية تذكرنا بعيني تمثال فتاة الوركاء. ويفصل بين الافريزين الملونين عدد من أشكال الوريدات المتنوعة الألوان.
يهيمن على (باليت) الفنان السومري ثلاثة ألوان هي الأسود والأحمر والأبيض. إذ غُرست هذه الألوان على سطح الأناء الحجري، بتقنية تشبه إعداد الجداريات المعاصرة بما يُعرف بتقنية الموزائيك. وبرزت في المشهد نسق من اشكال المربعات الكبيرة الحجوم، التي حَصرت بداخلها اشكالاً هندسية متنوعة كالمعينات والمربعات، التي تعود في سلسلتها التاريخية الى رسوم الفخاريات من عصر قبل الكتابة. فلاشك أنها اشكال مستخلصة من مرجعيات طبيعية، تعبر عن أفكار متحركة في بنية الفكر الاجتماعي. بنفس الطريقة التي كثّفَ بها (مالفتش) وحداته الهندسية في رسومه ذات الطابع الهندسي، التي تقع ضمن اتجاه التفوقية Super matisim.
ونماذج الآنية الحجرية الثلاث، تشير الى أن الشعب السومري، اكتشف أن الأشياء في الطبيعة يمكن أن تتحول الى أدوات سحرية قادرة
على التأثير في إيقاع ظواهر العالم الخارجي بل وعلى تغييرها أيضاً. إذ شَرعَ في التوصل الى فكرة مَفادها: أن المُستحيل يمكن أن يَتحقق بالطقوس السحرية، فكان يَحلم بالسيطرة على مجريات الطبيعة بوسائل خارقة. لذلك كانت تلك الآنية مجوفة وَمعدّة لاحتواء نوع من السوائل النذرية الاحتفالية، التي تتفعل قدرتها التأثيرية في جوف الآنية بفعل نجوعها السحري. لترتشف من قبل الرجال والنساء في مواسم احتفالية خاصة.
ولعل تبجيل الشعب السومري لذلك النوع من الآنية، لم يكن لمجرد كونها أشياء مادية، وإنما لما يسكنها من طاقة حيوية، بإمكانها أن تُفعّل نشاط مظاهر الخصب والنماء والتناسل في الوجود. بوصفها رموزاً توحّدت مع القوى العليا المتحكمة في قدرات الطبيعية التوالدية، لذلك فأنها صُنفت بعدّها رُموزاً أو تعويذات مقدسة تسكنها الأرواح، أو تتجلى فيها تجلياً حين تستدعيها الفعاليات والشعائر الطقوسية.
من المُرجح ان الكُتل الحجرية اللازمة لنحت أشكال الآنية، جُلبت من أماكن بعيدة، وبعد المَشقة والسَفر البعيد المُتصف بالقَصد والإرادة، سًلمّت الى النحاتين المُبدعين في أور والوركاء. الذين عَملوا على حَفر (بطونها) الداخلية وتجويفها، بعدها رُسمت الأشكال على سطوحها الخارجية، ليعمد النحاتون في المرحلة الأخيرة الى إزالة المناطق التي تقع خارج حدود الأشكال، فولدت أشكالهم من نسيج السطوح الحجرية الصلبة. تلك عملية خارقة تشبه فعل النحات (مايكل أنجلو) الذي كان يُزيل الغبار عن أشكاله الحجرية التي كان يراها وحدّهُ.
فما أروعَ الفعل التقني الذي حَررَ أشكالَ الأسود والثيران بمثل تلك الواقعية المُدهشة من الكتل الحجرية، وما أبدع خاصية المضايفة بين تقنيتي النحت المدور والبارز على السطوح الحجرية، إذ بَرزت رؤوس الثيران بخوارها المتصاعد، إزاء زئير الأسود الرَهيب. فقد فعّل النحات الخاصية التراجيدية للمشهد، بفعل التلاعب في مستويات الأشكال النحتية، بقصد الوصول بتراجيدية التعبير إلى أقصى طاقاته تأثيراً في سايكولوجيا المتلقين من الشعب السومري، وربما الأنسان المعاصر أيضاً.

Comments powered by CComment

Lock full review www.8betting.co.uk 888 Bookmaker