المشكلة السومرية- دراسة من خمسة اجزاء
يحاول الدكتور زهير صاحب في هذه الدراسة الرائعة سبر اغوار الفن السومري للوصول الى الجذور المعرفية المؤسسة له كمغذي محلي مرتبط بالبيئة العراقية الحاضنة من شمالها حيث الاصول وصولا الى جنوبها الذي شهد معجزة الريادة والازهار.
تؤكد منهجية تاريخ الفن، على أن دراسة الفنون السومرية، لن تكون بوصفها وحدة منعزلة عن غيرها، بل ينبغي أن تُدرس في سياق المحصلة الثقافية لتاريخ الحضارة الرافدينية. كونها تمتلك أواصر رابطة قوية بما سبقها وأعقبها في سلسلة التطور التاريخي للفن على أرض الرافدين.
وكان للتطور الهام والكبير الذي حققه السومريون، في مجالات إختراع الكتابة والآداب وفن العمارة والفنون التشكيلية بكل أجناسها، منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد. أن جعلَ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا الشعب المُبدع، لم يكن من سكان أرض الرافدين، بل وفدوا نتيجة هجرة خارجية مفترضة في زمن ما. فيما إعتقد البعض الآخر، بأن السومريين هم من سكان أرض الرافدين منذ عصر قبل الكتابة، ولم يصلوا نتيجة هجرة خارجية. وأزاء تضارب وإختلاف هذه الآراء، نشأ ما يُعرف في تاريخ الفن بالمشكلة السومرية.
فقد إعتقد الآثاري البريطاني الجنسية (ليوناردوولي) الذي نقبَ المقبرة الملكية السومرية في أور في الثلاثينات من القرن العشرين، "أن السومريين قدموا من أرض جبلية ومن مكان ما في أواسط آسيا" (وولي، د.ت، ص 541). فيما اعتقد الأستاذ (فرانكفورت): "على نزوحهم من المرتفعات الشرقية المحاذية لبلاد الرافدين" (فرانكفورت، 1959، ص 41). وكان رأي المرحوم العلامة (طه باقر) مخالفاً لكلا الرأيين، "إعتقد بأصول محلية للسومريين وللحضارة السومرية" (باقر، 1973، ص64).
وإننا إذ نقدم حلاً منطقياً للمشكلة السومرية من وجهة نظر تاريخ الفن، فأننا نؤكد منذ البدء، إن الآراء التي نَسبت أصولاً خارجية للسومريين، تعوزها الأدلة المادية، فهي منذ البداية خاوية في إفتراضاتها. ذلك ان جميع المستوطنات السومرية على ارض الرافدين، لم تدلّل على وجود ثغرات في تسلسل الطبقات الأثرية أو الأدوار الحضارية. وإنما تؤكد أن هناك تسلسلاً علمياً متصلاً ومتواصلاً للطبقات الأثرية، الأمر الذي يَدحض حجة وجود الهجرة الخارجية. فلو كان السومريون قد جاءوا نتيجة هجرة، فان ذلك يوجب حصول إنزياح كبير في بنية الحضارة الرافدينية، ومثل هذا التحول الخطير، يقوم على إلغاء بل وموت أنظمة حضارة عصر قبل الكتابة، لتحل محلها أنظمة حضارة جديدة، وذلك ما ترفضه نتائج إكتشافات علم الآثار رفضاً قاطعاً.
إن النشاطات الفنية التي تؤسس بنية الحضارة بشكل عام، تنبع من صميم الحياة نفسها، بوصفها نشاطاً إجتماعياً، تنحصر غايته في الحياة أو في الواقع نفسه. فالحضارة الرافدينية في بنيتها الكلية المميزة، بقيمها العليا وعواملها الفكرية المهيمنة، كانت قد صهرت إبداعات الشعب السومري وفنونهِ وطقوسه وأساطيره وقيمهِ الجماعية، بروحيتها وقالبها العام. ذلك أن بنية الأدب السومري تتحدث عن خصوصيات بيئية رافدينية مئة بالمئة، فأسطورة عشتار ومأساة تموز العظيمة في تاريخ الأدب العالمي، بأنتشارها الجماهيري الواسع، وطقوسها وشعائرها، هي بمثابة صور شعرية لموت الطبيعة صيفاً، ونمائها وإزدهارها في الربيع. فماهية المدلولات الفكرية في النصوص الأدبية السومرية، كما في ملحمة كلكامش الخالدة، وإدبّا وإيتّانا والطوفان وغيرها الكثير، قد عاشت في وسيط بيئي ذو مدلولات ثقافية وإجتماعية، وتبادلت معه الأثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة، من خلال منظومة من الرموز إكتسبت دلالاتها من الخارج، فهي بذلك مرتبطة بالحالة العامة للفكر الحضاري، الذي كيّفته وهيمنت عليهِ ضغوط البيئة الرافدينية.
ولذلك فإِن مثل هذه (الدراما) الأولى في تاريخ الأدب العالمي، كانت إبداعاً سومرياً خالصاً، وقد تناقلته الأجيال العراقية شكلاً ومضموناً حتى الوقت الحاضر، والأختلاف يقع في آليات الفهم وطرق الإخراج ليس إلا. فجميع ما يتصل بالفنون والإبداعات الأدبية من تقاليد وأعراف، ما أن تستقر وتختبر وتصل من جيل إلى جيل، حتى تصبح لها طبيعة مترسخة، ويبقى الناس متشبثين بها، بل ويغلبهم أزاءها التوقير والأحترام، بفعل إرتباطها بسلسلة متصلة من الأفكار والقيم الأجتماعية. إن ما تتضمنهُ الآداب السومرية من إستعارات بيئية، تُؤكد (محلية) الحضارة السومرية، وإنتمائها في إصولها لأرض الرافدين. فالفكر السومري كان ينتقي ويستدعي مفردات البيئة، ويؤولها إلى مفردات رمزية مرتبطة في دلالاتها بالمفاهيم المتحركة في بنية الفكر الأجتماعي، وذلك شيء عظيم، لكن المهم في مشكلتنا هو كشف مرجعيات هذه المنظومة من المفردات الرمزية. فالثور وذكر الماعز وشجرة الصفصاف وشجرة الأثل وكرمة العنب، والريح الجنوبية (الشرجي) والعاصفة الترابية، والقصب والبردي والطين وسعف النخيل وغيرها الكثير، هي مفردات بيئية رافدينية بكل تأكيد، وقد إستثارت مكنونات الفنان التشكيلي والأديب السومري، في ظل تأثير الواقع المُحيط بهِ، فأسقط عليها دلالات فكرية، محولاً إياها إلى أشكال رمزية، في بنية الإبداعات التشكيلية والنصوص الأدبية.
والمباني المعمارية السومرية رغم شكلانيتها، هي واحدة من إجناس الفنون التشكيلية، إذ تخبّئ في أنظمتها تأثيرات البنية الثقافية لعصرها، وتتحدد بنظم من المرجعيات والأفكار العاملة كقوى فكرية ضاغطة في زمانها ومكانها، وهي بذلك أفراز هام من إفرازات الحضارة السومرية. والمهم في العمارة السومرية، هو المخطط الذي يشكل اللب الجوهري للتكوين المعماري، وكذلك توجيه البناء نحو إستقبال أثر الأنارة الطبيعية والرياح، وخاصية خامات البناء، والأخراج الجمالي للتكوين المعماري، بما يحمله من حُلي معمارية رمزية، تدلل على خصوصيتهِ، وتكسبُه احتراماً وتوقيراً خاصين.
وتُظهر أبنية المعابد السومرية من منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، تشابهاً مع أقدم المزارات الرافدينية في تل الصوان من دور سامراء في النصف الثاني من الألف السادس قبل الميلاد. بصدد مخططات الأبنية ومواقع مداخلها، ومواد البناء، والأهم من ذلك موقع (قدس الاقداس) Cella، حيث مكان تجلي (الأله) بدلالة تمثلهِ حين يستدعيهِ فعل العبادة.
وتتضح أصالة الحضارة السومرية ومحليتها وهويتها الرافدينية، في ظاهرة تطابق مخططات المعابد السومرية مع مخططات المعابد من دور العبيد في مدينة اريدو من الألف الخامس قبل الميلاد. ففي كلا الطرازين، يتكون المعبد من باحة وسطية مكشوفة، يتوزع على جانبيها الطويلين عدد من الغرف، في حين تحتل (خلوة) الأله الضلع القصير البعيد عن بوابة المعبد.
كان المعبد السومري، عبارة عن نسق من العلاقات الرابطة بين مجموعة من العناصر البنائية، وقد إمتلك خصوصية من خلال تقديس الفكر الأجتماعي له، إذ حَلّت به روح الأله حلولاً، فتسامى نحو عالم القدسية. ولذلك حرص السومريون بشكل خاص، على تجميل المعابد وتزويقها وتوقيرها، فقد كانوا يجملون جدرانها الخارجية بنظام من الطلعات والدخلات، التي كان لها فعلٌ جماليٌ من خلال عمليات عكس ضوء الشمس وإمتصاصهِ. وإضافة لذلك فقد كسوا جدرانها الخارجية بطلاء لماّع، كان يتألق كالنحاس تحت أشعة الشمس، كما جاء وصفه في ملحمة كلكامش. هذا النوع من الأحساس الجمالي بسطوح المباني المعمارية، نجده (متجذراً) بذات الفعل والروحية في مزارات دور سامراء (5300 ق.م)، ومعابد دور العبيد (4500 ق.م)، الأمر الذي يؤكد تواصل الوعي والفهم، وترسخ التقاليد وتطورها المستمر، ويوفر بالتالي، دليلاً آخر على إنتماء السومريين لأرض الرافدين الطيبة المعطاء.
وكيَّف السومريون المبدعون، سيقان القصب الجميلة لبناء أكواخهم القائمة على سطوح مياه الأهوار، والمستقرة على حافاتها. إذ تُظهر طبعات الأختام الاسطوانية السومرية نماذج رائعة من هذه الأكواخ الفلاحية، فقد ورد ذكر كلمة (كوخ) في اسطورة الطوفان السومرية، حين خاطب الأله (إنكي) إله المياه، بطل الطوفان السومري بعبارة رمزية: "أسمع ياكوخ وأفهم ياحائط". والمهم هنا، هو إن طريقة بناء هذه الأكواخ القصبية، وأنظمتها المعمارية، وحليتها التزينية الخارجية، ما زالت مستخدمة في الريف العراقي إلى وقت قريب. وإذ يؤشر ذلك إنتماء الحضارة السومرية لبيئة ارض الرافدين، بوصفها (الرحم) الذي إحتضن هذه الحضارة، فأنه يفصح من جهة أخرى، عن حيوية الفكر الحضاري السومري وتواصلهِ حتى الزمن المعاصر.
كانت الصورة الذهنية للمكان ـ المعبد ـ عند السومريين، تشعر الجماعة باستمرار، بوجود أحداث كونية معينة، تضفي على المكان دلالات روحية. ومن هنا كان إعتزاز السومريين بالمكان، فقد إعتادوا على تجديد بناء المعبد كل مرة، دون تغيير مكانهِ. ولهذا بدت المعابد في الوركاء وغيرها من المواطن السومرية، كأنها قائمة على تلال إصطناعية. ثم فعـَّل السومريون هذه الرؤية بابتداع أبنية الزقورات، والزقورة كلفظ في اللغة السومرية، مشتقة من الفعل (زَقرَ) بمعنى إرتفع. فالمهم في (روحانية) الفكر السومري، هو إقامة سُلّم يربط عالم السماء بعالم الأرض، بغية إستظهار الماورائي من تخفيهِ، ليعقد نوع من الصلة مع حضوره الأرضي. فتساموا بضآلة الأرضي نحو تعالي الماورائي، ولعل هذه الفكرة ـ النظرية ـ هي التي وجهت ومغنطت الفكر السومري، وكانت له بمثابة الحامل.
ولعل ذلك، من شأنه ِ أن يُدحض وإلى الأبد، الفكرة الخاطئة التي تنص: على أن السومريين قد بنوا معابدهم على مصاطب عالية، كونهم قد هاجروا من منطقة جبلية، وإن معابدهم كانت تقليد لشكل الجبل. ذلك أن الفعل الأبداعي هنا، ليس هو فعل الذكريات، وإنما توليد وتجديد الأفكار وتطويرها بفعل التجريب، المستند إلى كمٍ وكيف من المرجعيات والسياقات العقائدية الدينية، التي تحكمت بالفكر السومري برمتهِ.
ونحت السومريون معظم تماثيلهم من أحجار غير متوفرة في البيئة الطبيعية لوسط وجنوب العراق، بفعل إدراكهم لأهمية الخامة في الخطاب الروحي الذي يَبثهُ التمثال، حيث تمتص الخامة فكرة المضمون إمتصاصاً، وتتسامى بفعلهِ إرتقاءاً نحو عليائها المعهود. ولذلك نحتت أشهر تماثيل تل أسمر من منطقة ديالى، من حجر الألبستر الشمعي (الكريمي) اللون، الذي يمكن الحصول عليه من مناطق جنوب الموصل وأماكن أخرى.
وهذه الأنتقائية الابداعية الذكية للخامات من قبل السومريين، لم تكن وليدة عصرها، فقد نحتت تماثيل تل الصوان قبل السومريين بأكثر من ألفي عام من ذات الخامة، وبذات الفعل الإبداعي في الأنتقاء والتجريب، لتفعيل تعبيرية التماثيل، وبما يتفق مع المضامين الكامنة في بنيتها العميقة. فهنا تؤسس التقنية في إنتقاء الخامات وتجميعها في تركيب التماثيل، سلسلة من التقاليد والتجارب المتصلة، تمتد من العصر السومري، حتى أعماق التاريخ على أرض الرافدين، الأمر الذي يُزيد من فكرة (محلية) الشعب السومري ترسّخاً، على حساب هجرتهم المفترضة التي لا تعززها أية براهين.
وكان لأنظمة تصفيف الشعر في التماثيل النسوية من العصر السومري الذهبي، مرجعيات ثقافية ترتبط بالموضات السائدة في الفكر الأجتماعي، وفي ملمح آخر، فأنها تظهر تشابهاً مع نظام تصفيف الشعر مع ما يعرف برأس فتاة الوركاء من العصر السومري المبكر. وفي ذات الوقت، تؤسس التماثيل السومرية سلسلة إتصال مع أنظمة تصفيف الشعر في التماثيل الفخارية من دور سامراء ومن مستوطن (جوخة مامي) بالقرب من مندلي والتي تعود لدور سامراء (5300 ق.م).
حيث يتشكل نظام تصفيف الشعر، بشكل سلسلة من أنصاف الأقواس تعلو الجبهة، في حين يحفر في سمت الرأس أخدود عميق لوضع إكليل من الشعر المستعار، ويحتمل أن يكون بشكل كتلة من الخيوط الذهبية، التي تمتد لتؤطر الوجه من الجانبين. ففي مثل هذه التماثيل الخالدة، يُعرض الموضوع ـ الشخصية ـ ببناء عاطفي وروحي، متراشحان في تكوين المنحوتة، فتكتسب حيوية خاصة لا يملكها أنموذجها في النماذج المألوفة، فالأشكال هنا تؤسس لها سلسلة كلية من الأفكار والتقاليد عِبرَ العصور، لتؤكد نظاماً من الأتصال بين سمات التماثيل الفنية، بدءا ً من دور سامراء من عصر قبل الكتابة، مروراً بالعصر السومري في فاتحة العصور التأريخية، وحتى الوقت الحاضر.
وإذ يتمظهر ما يُعرف بتمثال رجل (أريدو) من دور العبيد (عصر قبل الكتابة 4500 ق.م) بغطاء رأس أشبه (بالعرقجين)، فاَن في ذلك نوع من التشفير العلامي بأهمية الشخصية، فالشكل هنا إكتسبَ أهمية من دلالاتهِ التي ترتبط بالمفاهيم والأعراف الأجتماعية. والمدهش في الموضوع، هو أن أحد التماثيل السومرية من ذات المستوطن قد أصَّر على أن يتمظهر بنفس غطاء الرأس وهو يؤدي طقوسه الخاصة في محراب الأله، فكلا التمثالين هما بمثابة تمثالين احتفاليين، وقد اكتسبا أهميتهما من مرجعياتهما العرفية والأجتماعية، كونهما جزءً فاعلاً في الممارسات الطقوسية الناشطة في مستوى الوعي الاجتماعي. ولعل مثل هذه الأعراف، كانت قد حددت أنظمة الأزياء الطقوسية، لما من شأنه أن فعَّل ظاهرة توارثها وديمومتها من عصر قبل الكتابة وحتى العصر السومري في فاتحة العصور التاريخية على أرض الرافدين كانت فكرة إبتكار الختم الاسطواني سومرية بحتة، والموضوع لا يحتاج إلى نقاش، كونهِ متحقق في الأدلة المادية والأثرية والتأريخية بشكل ثابت. فبدلالة الأختام إستطاع الشعب السومري، أن يُحيل التأملي والخيالي والأسطوري في بنية الأختام السوسيولوجية الى خطاب تواصل بين الأفراد. وإن منظومة الأستعارات البيئية في مشاهد الأختام الأسطوانية تؤكد رافدينيتها مئة بالمئة، ومن المدهش حقاً، هو إعتقاد بعض الباحثين، أن الشعب السومري قد هاجرَ من الهند إلى العراق، بدلالة ظهور بعض الأختام الأسطورية السومرية في (موهنجدارو)، مقابل مئات الآلاف من الأختام الاسطوانية التي تداولها الشعب السومري على أرض الرافدين. ولذلك فان ظهور هذه الأختام القليلة في الأراضي الهندية، متأتي من نظم العلاقات التجارية بين التجار السومريين والهنود. وربما تكون هذه الأختام قد تركت لسبب ما، بعد الأنتهاء من توقيع المعاملات والأتفاقات التجارية بين الطرفين.
ويمكن القول: أن بنية الفكر السومري محمّلة بمرجعيات ثقافة عصر قبل الكتابة السابقة لها في خارطة تاريخ الحضارة على أرض الرافدين، أما حاضرها فيتمثل في تواجد عصرها في كيانها. ومن هنا يمكننا القول أن السومريين لم يأتوا بشيء خارجي غريب عن بنية الحضارة الرافدينية، بل تبنّوا وطوروا ما كان موجوداً، وإندفعوا بهِ نحو الأمام بسرعة كبيرة.
فأشكال المنحوتات الفخارية النسوية من عصر قبل الكتابة (دور العبيد)، التي ترتبط بفكرة عبادة الخصب في الوجود بشكل عام، قد شهدت كذلك إنتشاراً إجتماعياً في العصر السومري، حتى أنها أصبحت من ضمن مصاحبات النسوة الشخصية. ورغم وجود بعض الأختلاف في السمات الشكلية التي تميز هذه التماثيل بين عصر قبل الكتابة والعصر السومري، إلا أن العناصر المهيمنة في أشكالها ما زالت متطابقة، وإن الشفرة التي تبثها في خطابها الأجتماعي هي نفسها في كل العصور، الأمر الذي يؤكد ثبات دلالات بنياتها العميقة، وتداولها وإنتقالها بأمانة عِبرَ الأجيال، وأما التفاوت وبعض الأختلافات في سماتها الشكلية، فأنه يرجع إلى تنوع الأفراد ممن قاموا بنحتها بوصفها صناعات شعبية. ومرة أخرى تثبت أصالة الحضارة الرافدينية (محلية) الإبداعات السومرية، وإمتلاك الحضارة السومرية جذوراً عميقة، تمتد لعصر قبل الكتابة على أرض الرافدين.
وفي النصف الأول من القرن العشرين، تم تمرير رأي لا تؤيده الأدلة المادية، ومفاده إن الفخاريات السومرية في جنوب العراق، تعود لفخاريات (سوسة) التي إنتشرت في المناطق الجنوبية الغربية من إيران في أواخر الألف الخامس قبل الميلاد. وإدى إكتشاف فخاريات أريدو (العبيد الأول) في جنوب العراق بعد ذلك، التي يرجع تاريخها إلى بعد زمني أقدم في فاتحة الألف الخامس قبل الميلاد، إلى تفنيد صحة هذا الرأي، بل وقلبه على عقب، فقد أصبح الرأي العلمي المنطقي الآن، هو أن فخاريات (سوسة) الأيرانية، هي بمثابة تنوع محلي لفخاريات العُبيد، وبكل ما يتصل بصناعة الفخار من خصوصيات.
وكذلك كُتب في أوائل السبعينات من القرن العشرين، بان الفخاريات السومرية في جنوب العراق، كانت ذات أصول خليجية، بدلالة ظهور نماذج منها في مستقرات مؤقتة على سواحل الخليج العربي الشرقية في الأراضي السعودية وغيرها. إلا أن التحليلات الكيميائية لأطيان هذه الفخاريات، أظهرت إنها معمولة من تربة جنوب العراق، الأمر الذي أثبتَ بطلان هذا الرأي. إضافة إلى إن قراءات كربون (14) الأشعاعي أثبتت ايضاً، قدم مستوطنات الحضارة الرافدينية في جنوب العراق بالنسبة لمماثلاتها على أرض الخليج. وصارَ الرأي الآن: أن ظهور نماذج الفخاريات من العصر القبل كتابي والعصر السومري في العراق على أرض الخليج العربي، متأتي عن نوع من العلاقات التجارية وفعاليات الصيد المشتركة، بين أناس تلك المناطق، الأمر الذي أدى إلى إنتشار تلك الفخاريات إلى تلك المناطق البعيدة عن الأراضي العراقية.
والآن علينا أن نقدّم حلاً منطقياً لمشكلة مرجعية الشعب السومري زمانياً ومكانياً، وذلك بأثارة عدد من التساؤلات أهمها: من أين جاء السومريون؟ وأين كانوا؟ وكيف وصلوا إلى موطنهم؟ وكيف كان ذلك؟
وإستناداً للمنطق العلمي، يمكن القول بأن الأدلة المادية وكما هي مؤكدة في الأكتشافات الأثرية، تشير إلى أن أسس البناء الأولى للحضارة العراقية كانت في القسم الشمالي من البلاد. ففي الشمال كانت الظروف مهيئة لقيام النشاطات الأقتصادية وأهمها الزراعة وتدجين الحيوان، بسبب ثراء البيئة الطبيعية بالأمطار الكافية لنمو الحاصلات الزراعية، وتواجد أعداد كبيرة من قطعان الحيوانات. وجميع هذه الفعاليات كانت بسيطة ومحدودة الجهد، ولم تتطلب من الأنسان سوى الحرث اليسير حيث الحقل الذي يُزرع كان بسيطاً، ومن ثم البذر والأنتظار إلى موسم الحصاد والجني. والحضارة الأولى في بيئتها الشمالية عُرفت بحضارة حسونة (6750-5000 ق.م).
وفي الوقت الذي كانت فيهِ النفس البشرية تبحث عن ذاتها، وقد خطت أولى خطواتها، بإبداعها أنظمة المباني المعمارية وفن الفخار والمنحوتات الفخارية والحجرية والرسوم الجدارية، التي تَضم في أنسجتها البنائية جميع ما يجتاز حركة الفكر الأجتماعي من إشكالات فأنها تؤكد هيمنة ضغوط عوامل البيئة الطبيعية، على بنية الفكر في خصوصياتهِ المتنوعة في زمانهِ ومكانهِ الأولين، وتفضح أيضاً، على أن الفكر الإنساني كان في بدايتهِ الحضارية الأولى، وإن خبرتهِ المستندة إلى التجريب كانت بسيطة كذلك.
وبسبب الزيادة الحاصلة في عدد السكان، وتذبذب كميات الأمطار وعدم كفايتها في قيام الزراعة الديمية. جاءت الهجرة الأولى، حيث نزحَ العراقيون من مواطنهم في الشمال، ليؤسسوا بنيتهم الحضارية الجديدة على ضفاف الأنهار، وذلك بتأسيس عدد من القرى الكبيرة على ضفاف نهر دجلة (قرب سامراء الحالية)، وكذلك حول مدينة مندلي في الشرق. حيث تمكنوا بفعل تعاظم الخبرة القائمة على التجريب، من إقامة أنظمة الزراعة الأروائية الأصطناعية، وذلك باستخدام تقنيات الري بالسيح، وزراعة ضفاف نهر دجلة القريبة من التربة الغرينية (الشواطي). وقد كان ذلك في النصف الثاني من الألف السادس قبل الميلاد، وبالتحديد في (5300-4800 ق.م) حيث شغلت حضارة دور سامراء معظم هذه الفترة من عصر قبل الكتابة.
ودخل الفكر الحضاري في حينهِ، بصراع مرير مع عوامل البيئة، فتعاظمت الخبرة الفكرية وكثرت الإبداعات والابتكارات الحضارية، إذ أسست أُولى النظم الأجتماعية وأقدم الشعائر والمعتقدات الدينية. وإذا إستثمرنا دراستنا التحليلية التي مَرَّ ذكرها، التي أظهرت وجود علائق لا ينتابها الشك بين فنون دور سامراء من عصر ما قبل الكتابة والفنون السومرية، يمكن القول: بأن السومريين الأوائل قد أفصحوا عن خصوصيات حضارتهم في هذه المنطقة، وإن أصولهم الأولى تقع في الحزام الوسطي من أرض العراق (خارطة 1).
وبفعل صعوبة إنجاز المشاريع الأروائية الكبيرة في هذه المنطقة، بسبب إرتفاع ضفاف نهر دجلة عن مستوى المياه، لتوفير موارد غذائية للسكان الذين تكاثرت أعدادهم، كانت الهجرة الهامة من هذه المناطق، وتتبع مجرى النهر نحو منطقة إلتقائهِ مع نهر ديالى. حيث يكون مستوى الماء في النهر قريباً من ضفافهِ، الأمر الذي سهلَّ عملية إقامة قنوات الري الكبيرة فتوسعت مساحات الأرض المزروعة، وتكاثرت المحاصيل الزراعية من الحنطة والشعير وغيرها، وأتاحت البيئة الطبيعية الجديدة، قيام نشاط إقتصادي يعتمد على الصيد، حيث تتوفر أعداد كبيرة من الطيور المائية والأسماك وغيرها الكثير من الثروات الطبيعية في الأحراش المائية العديدة في هذه المنطقة (خارطة 1).
وإن البقايا الحضارية في مدينة تل أسمر وغيرها في هذه المنطقة، تعلن عن هويتها بأنها سومرية، منذ عصر الوركاء وجمدة نصر وحتى العصر السومري الذهبي، بدلالة الكتابات وأنظمة المعابد المعمارية وإبداعات النحت بضروبهِ المختلفة. وقد كان ذلك بدءاً من منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وحتى الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد.
وسبقت هجرة السومريين من وسط العراق نحو منطقة ديالى، هجرة كبيرة أخرى، حيث نزح السومريون نحو شواطيء دجلة والفرات في جنوب العراق، وكان ذلك في منتصف الألف الخامس قبل الميلاد (4500 ق.م)، حيث أقام السومريون حواضرهم المشهورة في أريدو ـ العُبيد ـ الوركاء ـ جمدة نصر ـ أور ... الخ. ففي ثروات هذه البيئة الطبيعية الجديدة، توفرت إمكانات لخلق إقتصاد زراعي ناجح، بفعل توفر كميات المياه والأراضي الخصبة، وتنوع موارد البيئة النباتية والحيوانية (خارطة 1)، وقد ذكرت الكتابات المسمارية السومريين باسمهم في هذه المنطقة من العراق.
وإذ لم تُظهر الاكتشافات العلمية الأثرية، ثغرة في التطور والتواصل الحضاري، ما بين أواخر عصر قبل الكتابة (دور العُبيد) والعصر السومري الذي يُعّد أول العصور التاريخية في حضارة بلاد الرافدين، وكذلك لم تُدلّل البقايا المادية ودلالاتها الحضارية على وجود عناصر فكرية إجنبية في فترة التحول نحو العصر الكتابي السومري، بل أن أنظمة البنية الفكرية القبل كتابية، ما زالت تعمل ذاتها كمهيمنات في بنية الحضارة بشكل عام، حين دخل تاريخ الحضارة العراقية ما يُعرف بالعصر السومري.
وإذا إستثمرنا ما أسلفنا شرحه وتفصيله بخصوصية بنية الأدب السومري، وبما يجتازها من عناصر ورؤى فكرية، ومفردات إستعارية، تثبت إنتماء الصور الأدبية السومرية بجميع ملابساتها، إلى البيئة الطبيعية السومرية على أرض العراق، وكذلك تفعيل فكرة إنتماء السومريين إلى أصول رافدينية، بدلالة تواصل أنظمة فن العمارة السومرية في مخططاتها الهندسية وخاماتها وحلياتها التزيينية، مع مماثلاتها من عصر قبل الكتابة في العراق. فأن فن النحت السومري في بنيتهِ الفكرية وانظمتهِ الشكلية ووظائفهِ المرتبطة بالطقوس والعقائد والمفاهيم المتحركة في الفكر الأجتماعي، يؤكد كذلك (عراقية) الحضارة السومرية. فقد عاش السومريون منذ أقدم أطوار عصر ما قبل الكتابة على أرض الرافدين الطيبة المعطاء، وإستطاعوا أن ينهضوا ويطوروا هذه الحضارة بشكل فاعل، الأمر الذي جعل الأجيال تتحدث وتناقش مآثرهم الإبداعية على مَرّ التاريخ.
Comments powered by CComment