د. زهير صاحب

إلهة الماء الفوّار رائعة الحضارة البابلية - 1800 ق.م

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 

يعد تمثال "إلهة الماء الفوار".. واحداً من إنجازات النحت البابلي الهامة، الذي اكتشف في احدى ساحات قصر الملك زمري ـ لم في مدينة ماري، من قبل بعثة الاكتشافات الفرنسية في الثلاثينات من القرن العشرين

 

 

يعد تمثال "إلهة الماء الفوار".. واحداً من إنجازات النحت البابلي الهامة، الذي اكتشف في احدى ساحات قصر الملك زمري ـ لم في مدينة ماري، من قبل بعثة الاكتشافات الفرنسية في الثلاثينات من القرن العشرين. ويبلغ ارتفاع التمثال (150سم)، ومنحوت من حجر أبيض ناعم الملمس..ومعّرق باوعية شعرية صفراء وزرقاء اللون.. أضفت عليه مظهراً جمالياً رائعاً.. محفوظ في متحف حلب بسوريا حالياً.

تمظهرت (إلهة الماء) بشكل فتاة جميلة، استعارها الفنان بفعل ابداعي ذكي: لانسنة شكل القوة الماورائية، متوجاً اياها بتاج الآلهة المزين بزوج من قرون الثور.. اللذين نفذا بتقنية النحت البارز .. بتصميم متقابل ومتناظر على واجهة غطاء رأسها الثقيل. فيما فضلّت إلهة مدينة ماري ان تستعرض خطابها الجسدي بقميص صيفي أزرق اللون.. شفاف وبنصف اكمام، وتنورة منسابة.. صممت على شكل خمس طبقات أفقية متناغمة، فيما برزت قدماها الرقيقتان من فجوة ضيقة.. على قاعدة التمثال الدائرية الشكل.

لم يعامل الانسان وكذا الطبيعة.. هذا التمثال الفريد من نوعه في فن النحت على ارض الرافدين: بشيء من اللُطف. إذ تعرض لبعض التشويه.. فقد أُقتلعت الاحجار الزرقاء اللون.. التي كانت تلّون محجري العينين..وأتلف أنف الفتاة (الأفنص) بفعل عدوانية يد مجرمة. ومع ذلك: فقد بقيت إبتسامتها اللعوب.. وكذلك (النونة) الجميلة في مركز حِنكها.. والصياغة المتقنة لوجنتيها.. واستدارة وجهها البيضوية اللطيفة.. التي أُطرّت بشعرها المضفور.. الملتوي على كتفيها.. أشبه ببنيقة من الفراء: من اهم آليات الأظهار التقنية.. التي تضع (بورتريه) الفتاة لوحدهِ.. في مصاف المنجزات العظيمة في تاريخ النحت العالمي.

أمسكت الفتاة بكلتي يديها.. بقاروة حجرية.. انسابت منها موجات فوارة من الماء، التي سمحت شفافيتها باظهار اشكال الاسماك السابحة صعوداً ونزولاً..بحركة نغمية..موسقت السطح البصري للتمثال وفعلّت خاصيتهُ الجمالية.

حققت طريقة عرض التمثال بحجمهِ القريب من الحجم الطبيعي لاي فتاة بابلية..في وسط احدى الساحات الفسيحة للقصر الملكي: إنزياحاً هاماً في التلقي الجمالي لآليات عرض التماثيل في تاريخ الفن الرافديني. فبدلاً من إنزواء التماثيل مسندة الى الجدران في (خلوات) المعابد، فانها عرضت في الاماكن الأحتفالية العامة. وعوضاً عن التلقي الجمالي الفردي للتماثيل، فانها أُظهرت لكل الجماهير دون استثناء. كما ان توسطها اهم ساحات القصر، قد حقق متحولاً في آليات الاستيعاب الجمالي للتماثيل، بالدوران حولها دورة كاملة.. لتحقيق التمتع الجمالي بخصائص السطح البصري النحتي: الخطية والملمسية وذلك (فعل) جمالي سبق طريقة عرض تمثال اثينا في مركز القاعة الوسطى بمعبد البارثنون بحوالي 1300سنة.

596-zuher1وبغية التسامي والارتقاء بشكل الفتاة، من كونها امرأة تتبضع في اسواق مدينة ماري، الى شكل (إلهة)، كان الحل الابداعي للفنان.. بتركيب شكلها مع شكل رمزي آخر هو شكل قرني الثور اللذان يزينان تاجها المقدس. ولتفسير ذلك التركيب الابداعي.. يمكننا القول: بان الفنان البابلي كان يستلم خطابات رسائل مفردات بيئته الطبيعية بوسائط فعل الحواس.. التي كانت بمثابة ضغوط منبهة لاشكالاتهِ الفكرية الاجتماعية. فعلى وفق هذه المعادلة من التفاعل.. استعار الفنان شكل قرني الثور من كتلة الحيوان كله، وأوّلهُما بفعل (حدوسه) الابداعية الى شكل رمزي يخبيء في دلالتهِ مفاهيم القوة والخصب والتكاثر في الوجود. فسببية الرمز في الفكر البابلي: كانت مشيدة على نسج علاقة بين دلالات الاشكال الرمزية.. والافكار المتحركة في الوسط الحضاري.

فتعدت قرون الثور خاصيتها الطبيعية كونها وسيلة دفاع خاصة بالحيوان وحده، واصبحت بدخولها نسق الفن (رمزاً) فاعلاً في التلقي الاجتماعي للافكار، فربحت بمثل هذه الاحالة والتأويل: تعددية الدلالة والتلميح..بعد ان كانت واحدية المعنى في عوالمها الطبيعية. إذ ان الفكر البابلي لم يكتفي بادراك الجوانب الحسية للافكار، بل تعداها الى كشف ما (تخبّئه) الظواهر من دلالات في خصوصياتها الجوهرية. فاوجد بذلك معادلاً صورياً لفهمه وافكاره..في صيرورة من خاصية التعبير عن اشكال مثقلة بمضامين فكرية اجتماعية.

أظهرت الادلة المادية..المستندة الى نتائج الاكتشافات الأثرية، الى أن تمثال الالهة..كان بمثابة (نافورة) في باحة القصر الملكي الرئيسية. فقد كان مرتبطاً بخزان ضخم للماء، الذي يجري من خلال مجرى خاص ليدخل جوف التمثال..ثم ينساب بشاعرية من فوهة القاروة الحجرية. وذلك احدث انزياحاً هاماً في وظيفة تماثيل الآلهة..التي لم تعد تماثيل مكرسة للعبادة وطقوس تقديم القرابين.. وانما اصبحت تمتلك بالاضافة الى قدسيتها وظائف جمالية جديدة في خاصية التلقي الاجتماعي للمنجزات النحتية.

تواصل البابليون بصدد فكرة (اناء الماء الفوار) مع اسلافهم من السومريين والاكديين. فتلك (مسألة) تأويلية معروفة في الفنون الرافدينية منذ رسوم الفخاريات من عصر قبل الكتابة مروراً بالعصر السومري (2800-2370ق.م).. وحتى العصر الاكدي (2370-2230ق.م).. إذ كثر تمثيل هذه الفكرة على سطوح الاختام الاسطوانية الاكدية.. حين يروي البطل الاكدي الاسطوري.. فحل الجاموس من اناء إنسابت منه المياه بوفرة. فيما تمظهر الأمير (جـوده) مـن العصـر السـومري الجـديد (2112-2004ق.م) بذات المظهر في احد تماثيله المشهورة المحفوظ في متحف اللوفر.

اما دلالة مثل هذه المشاهد المتتابعة في تأكيد ذات الخطاب الفكري، فانها بمثابة تأويل وتركيز لقوة الحياة بفكرة الماء في ملمح، وفي ملمح آخر فانها تعد فعلاً سحرياً لأجبار الطبيعة في ان تتجدد، وان تكون في كل حين.

لا يمتلك الماء أي شفافية لرؤية الاسماك سابحة فيه، فلو كان ذلك.. لامكن إصطياد جميع الاسماك في العالم بسهولة متناهية. ولذلك فان تعليل ظهورها الشكلي سابحة على سطح (تنورة) الالهة، فتلك اشكالية ترتبط بميكانزمات عمل ذهنية الفنان.. الذي كان يمثل الاشياء على وفق الصورة التي يعرفها عنها، وليست الصورة التي يراها بعينيه مباشرة.فالذي يعرفه عن الماء في خزينه الذهني، هو انه يخفي في جوفهِ جمهرة من الاسماك، التي يجب ان تظهر سابحة فيه استناداً لمثل هذا التصور.

فمثل هذه (التجريدات) تؤكد وجودها ايضا في الرسوم الجدارية والمنحوتات البارزة الرافدينية والفرعونية.. وتتواصل في حضورها ايضاً في رسوم الواسطي من القرن الثاني عشر الميلادي. وربما تؤكد ظهورها كذلك في رسوم الأطفال.. فالطفل يرسم الشجرة خضراء اللون.. حتى لو كانت الشجرة حمراء، وتظهر الاسماك وجميع الحيوانات المائية..ظاهرة في رسومهِ. فحقيقة لون الشجرة..وتعالق الاسماك مع الماء، هي الحقيقة العظمى..التي لها صفة الفضيلة الآمرة..في الخزين الذهني الصوري الكامن في ذاكرة الاطفال. ولذلك فضلَّ فنان القرن العشرين (بول كلي).. رسوم ابنهِ (فيلكس) على رسومهِ.. كونها تتميز بالبساطة والنقاء والعفوية والانطلاقة والحرية..على العكس من رسومه التي تطبخ في مختبر الدماغ.

596-zuher2ان فكرة الجمال في تمثالنا الأحتفالي: تتركز بنوع من (الحدس) لنظام العلاقة بين قدسية الأفكار..وخاصية الخامة السحرية المشيدة منها..في حركة الفهم الاجتماعي. فلنا ان نتخيل ان فكرة تمثال إلهة الخصب..كانت مؤسسة قبلياً في ذهنية الفنان قبل التنفيذ.. وقد كان حله ناجحاً، باختيار خامة الرخام الأبيض لبناء تمثالهِ منها. فقد كان الجدل (الروحي) يجتاز الذات بصدد تفعيل (التعبير) في خصوصيات الخامة: كصلابة كتلتها وطبيعة ملمسها ولونها بالدرجة الاساس. إذ ان بنية التعبير في الشكل الرمزي لمدينة ماري، لم تتظافر: إلا بعقد صلة من الارتباط الحيوي.. بين قدسية المضمون.. والخامة التي تحتويه وتشفّر عنه. فيدعم كل منهما الآخر في البنية الكلية الموحدة للتمثال.

فلم يكن تمثال (الفتاة) صورة لالهة.. بل قالباً تتخفى في جوفهِ شارة القدسية.إنها بمثابة رمز احتفالي لقوى الانوثة والخصب في الوجود، وذلك يتكشف شيئاً فشيئاً: بفعل التأمل الحيوي في منطقة تقع بعد (حضور) صورة التمثال، حين يتحرر (البشري) من حالة الأنسان.. ليتوحد مع اشكال الآلهة.

احتلت العينان منذ العصر السومري وحتى عصر حمورابي: اهتمام الفنان بتقنيات اظهارهما في بورتريهات التماثيل.. بوصفهما العنصر المشفّر عن اهمية الشخصيات.. فهما البصر والبصيرة في نفس الآن. ولذلك تم تطعيمهما باحجار ملونة وبراقة.. الأمر الذي فعّلَ الخاصية التعبيرية للتمثال: ليقدم خطابه الفكري في (دراما) المشهد خارج حضوره الواقعي. فقد امتصت مخيلة النحات البابلي المُبدع فكرة الموضوع إمتصاصا..واعادت اخراجها على وفق نظام الشكل التعبيري.. وذلك انعكاس لذات الفنان الحرة الكاشفة المؤولة. إذ ان هيمنة خاصية تجميع الخامات في شكل العينين.. وحركة اليدين بقارورتهما الثقيلة.. يكشف عن نوع من التركيب الشكلي الرمزي.. في خاصية البلاغ الفكري الذي يبثهُ التمثال.. والذي تم تكثيفهُ: بنوع من الخطاب التداولي بين الفنان ومجتمعهِ: الذي لا يؤمن بجمال الخطاب اللاهوتي.. إلا بارتحال (الفيزيائي) وارتقاءه منطقة الصور الماورائية.

في الثلاثينات من القرن العشرين.. اكتشفت بعثة الاكتشافات التابعة للمعهد الشرقي بجامعة شيكاغو: تمثال من البرونز بارتفاع 17.3سم.. في مدينة (اشجالي) وهي احدى المدن المهمة بمملكة اشنونا في ديالى، ومحفوظ في متحف الجامعة المذكورة حالياً. ويمثل التمثال شكل الأله (آمور) أو (آمورو).. ويعني إله الغرب او إله الأقوام القادمة من الغرب.. اي الكنعانيين الشرقيين او الآمورييين.. الذين هاجروا الى بلاد الرافدين في النصف الاول من الالف الثاني قبل الميلاد.. واسسوا عدة ممالك فيما يعرف بالعصر البابلي القديم.. كما اسلفنا.

تمظهر شكل الإله بغطاء راس ثقيل (صدفي) الشكل.. وله أربعة وجوه، وإلتحفَ بجلباب سميك مهدّب.. شُكِِّلَ من عدة اشرطة افقية تدور حول كتلة التمثال.. بايقاع منتظم. وتسلّح إله الآموريين بهراوة (غليظة) ذات نهاية معقوفة.. ووطأ بقدمه اليسرى شكل كبش مضطجع.

يعد شكل الإله (آمور) واحداً من الاشكال الجديدة وغير المألوفة في (عدة) النحت الرافدينية.. فوجوههِ الاربعة.. ومصاحباتهِ الرمزية (الهراوة والكبش).. أصرَّ الآموريون على ادخالها الى (حقيبة) الاشكال النحتية الرافدينية.. المُتصفة دائماً بالأنفتاح على الآخر.. والحيوية والتجدد.

تعود مرجعيات منظومة الاشكال الرمزية المصاحبة للنص.. او لنقل التمثال.. الى بيئة الآموريين الطبيعية الأم.. فشكل هراوة الراعي وكذا الكبش المضطجع.. تؤكد توصيف النصوص الكتابية من العصرين الاكدي والنهضة السومرية للآموريين: "بانهم اقوام رعاة متنقلين يبحثون عن القوت لحيواناتهم في براري بادية الشام". إلا ان استعارة الفنان لهاتين المفردتين.. وادخالهما نسق الفن.. بفعل قدرتهِ العجيبة على التأويل.. قد حررهما من صيرورتهما الطبيعية.. بفعل إنتقالة من التعامل مع المادي المحسوس الى صورتهِ الذهنية.. ومن استخدام الاشياء الى تفعيل دلالاتها الرمزية في حركة الفكر الاجتماعي.

فعملية تكوين المفاهيم في بنية النصوص النحتية البابلية..قد أحلّت (المفهوم) محل الشيء: فاتاحت للفكر الفرصة لان يتعامل مع مفاهيم دالة على وفرة من الجزئيات. فغدت عصا الراعي الثقيلة.. بمثابة الاداة الكونية التي بامكانها اخضاع الاعداء في شتى بقاع الأرض.. حين يهوي بها الإله (آمور) على رؤوسهم.. كما يظهر في مشاهد الاختام الاسطوانية البابلية القديمة.

أما شكل الكبش المصاحب للإله (آمور) فشأنه شأن الأسد قرين الالهة (عشتار) في الرسوم الجدارية البابلية..وشكل الثور قرين الإله (أدد) في مشاهد النحت البارز الأشورية.. وتلك منظومة واسعة من الاشكال الرمزية..فشكل الاسد مع عشتار يؤكد دلالة القوة..وشكل الثور مع أدد..يفعّل زفيره الرطب فرصة سقوط الامطار.. اما حضور شكل الكبش مع الاله (آمور) فانه سيأتي بالخصب والخير العميم. ولعل استعارة هذه المفردات الطبيعية وتأويل دلالاتها في الاعمال النحتية.. لم يكن نسخاً لواقع مُعطى، بل كشفاً لظواهر الحياة.. بما يجتازها من مخاوف ورغبات، تبثّه اشكال رمزية.. كانت بمثابة (اللغة) التداولية التي مكّنت الانسان ان يعلن: عما لديه من خبرات واحاسيس.

لم تألف خارطة تاريخ الفن في بلاد الرافدين قبل البابليين: شكلاً مركباً باربعة وجوه.. فالذي نعرفه: هو ان وزير الاله (انكي) إله المياه والفطنة والذكاء والمعرفة.. المعروف باسم (اسمو)..قد تمظهر بوجهين امامي وخلفي في مشاهد النحت البارز من عصر النهضة السومرية.. بحكم ارتباط واجباتهِ الوزارية بالاله (انكي) المتصف بالحكمة العميقة ووسع الدراية والأطلاع.

اما غرائبية شكل الأله (آمور) بوجوهه الأربعة، فيمكن كشف مرجعياتها في بنية النصوص الأدبية الاسطورية البابلية. فقد ورد وصف الاله (مردوخ) في قصة الخليقة البابلية: بان له اربع عيون واربع آذان. ووصف بانه الاله العارف بكل شيء.. وهو ملك جهات العالم الاربع.. فبين (الادبي) والمنجزات التشكيلية البابلية.. تداخل وتشابك، اذ ان تقنية التشكيلات البابلية لا تتعارض مع ما يحيط بها من صور اسطورية.. فلا قيمة لاي (تحليل) إذا لم يفعّل هذه البُنى المجاورة في عدتهِ التحليلية الجيولوجية.. فقد نشأت قصة الخليقة البابلية بشكل اناشيد.. كان تنشد يومياً في اسواق وشوارع وساحات المدن البابلية.. إذ ان غرابتها الاسطورية كانت بمثابة الحل.. للاشكالات السايكولوجية التي تجتاز داخلية كل مواطني عصر حمورابي دون استثناء.

فالوجوه الاربعة لأله الاموريين.. ربما تكون تعبيراً شكلياً ..عن سطوتهِ على جهات العالم الاربع.. اذ يختص كل منها بجهة من الجهات الجغرافية المعروفة، او هي بمثابة التشفير عن قدرة الأله المعرفية..فباستطاعتهِ رؤية جميع الاشياء باي اتجاه من اتجاهات البوصلة، "وذلك تركيب اسطوري.. يذكرنا برؤيا (حزقيال) للمخلوقات الحية الاربعة.. وكل واحد منها له اربعة وجوه" (بارو، 1979، ص 340).

أما تمثال زوجة (الاله).. ملك الجهات الاربع..فقد اكتشف في مدينة اشجالي ايضاً..ومحفوظ الى جوار تمثال زوجها.. في متحف المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو وهو منحوت من البرونز.. وارتفاعه 16.2سم. وتمظهرت الزوجة كذلك باربعة وجوه اسوة بزوجها.. وهي تؤدي دور إلهة الخصب في هذه الدراما النحتية. كونها امسكت باناء صغير بكلتي يديها..ينساب منه الماء بشكل مستمر.وتلك تقابلات شكلية في بنية مثل هذه الأقترانات العائلية الاسطورية.. تميزت بقدسية وبسلطة عظيمة على معتقدات الشعب البابلي.. كونها ترتبط بلاهوت ديني.. وتتشابك مع مباديء ذلك اللاهوت وطقوسه.. فاسطورة الزوجين الكونيين (إله الرعي+إلهة الماء) تشفّر عن اهم عناصر الوجود لدى الآموريين.. ومثل هذه الرؤية المتفوقة في بنية الشكلين النحتيين.. لم تأتي من اية مصاحبات خارجة عنهما.. بل من خاصية مسرحة شكليهما..وطريقة مخاطبتهما للجوانب الانفعالية اللاشعورية المتحركة في الفكر الاجتماعي. فالصور النحتية المستمدة من الاساطير: هي التي اكسبت فكرة (الإلهين) الواناً وظلالاً حية.. ورسمت صورتيهما، واعطتهما اسميهما، وحددت لهما وظائفهما، في عوالم القوى الماورائية.

فأسطورة إقتران هذين الزوجين الكونيين.. ليس لها زمن محدد في معتقدات شعب حمورابي، أي انها لم تقدم مقولتها عن حدث جرى في الماضي وانتهى.. بل عن (حدوث) ذي حضور دائم.. وتلك بنية اسطورية.. نجد جذورها الاولى في اسطورة (دموزي وإنانا) السومرية. فالاله دموزي الذي قُتل ثم بُعثَ للحياة مرة اخرى.. انما يحدث ذلك في كل عام..إذ يختفي في الصيف.. ليبعث في الربيع.. لتبرير التجدد السنوي في حياة الطبيعة.. مع قدوم كل ربيع.

يبث تمثال الاله (آمور) وزوجته.. خطاباً تقنياً متفرداً: بصدد آليات الأظهار.. والتمظهرات التعبيرية لخامتيهما، فالمشكل في الموضوع: هو ابداع نظام من العلاقة المتناسب بين خاصية قدسية الفكرة..والوسيط المادي الذي يحتويها ويعلن عنها، فكان الحل الابداعي للفنان بقولبة فكرة اسطورية الإلهين بخامة البرونز.. وتلك رؤية متفردة.. اكسبت البرونز ذلك المعدن الصلب والمُشع كالذهب.. صفة متحركة في دلالته.. تفوق خواصه الطبيعية.. وذلك فعل جمالي.. فعّلَ تعبيره كوعاء حلّت به الفكرة لتعبر عن صيرورتها الأبدية.

أنجز تمثال الإلهين بتقنية الصب المجوف.. ونرجح استخدام النحات طريقة القالب الشمعي: التي يُصاغ الشمع بموجبها حسب الشكل المطلوب على شكلي التمثالين الجبسين، ثم يغطى نموذجي الصب بعدة طبقات من طينة نقية، مخلوطة بمواد مختلفة فائدتها غلق المسامات.. وعندما تكون تكسية الطين بدرجة كافية من السمك، يوضع النموذجين في الكورة، فيفخر الطين الذي يشكّل القالب الخارجي، ويذوب الشمع الذي يجري عبر فتحات صغيرة معدة لهذا الغرض. بهذه التقنية يمكن الحصول على فراغ بين اللب والقالب، الذي يتم ملؤه بمعدن البرونز المذاب، وبعد تصلبه يُكسر قالب الفخار.. فيظهر التمثال البرونزي كاملاً.. فيتم توضيح تفاصيله الدقيقة بأدوات حادة من قبل النحات.. في المرحلة النهائية من عملية الأنجاز.

ولعل اهم ما يميز تقنية انجاز التمثالين.. هو تلك القدرة الحرفية العالية التي تميز خبرة النحات.. والاحساس العميق بالشكل.. والدقة المتناهية في اخراج التفاصيل الشكلية. فقد اشتغل النحات البابلي الذي تتلمذ طويلاً على ايدي الفنانين السومريين والأكديين على سطحي التمثالين: بمنظومة خطية متماسكة ورائعة.. محققاً معالجة شكلية متفاوتة في تعدد المستويات..وتنوع الملامس ونظام الانارة على سطحي التمثالين.. الأمر الذي جعل هذين التمثالين: من روائع فن النحت في بلاد الرافدين.

والجوهري في الموضوع: هو ان الفنان البابلي..لم ينحت تمثاليه..بغية الحصول على (تمثلات) مشابهة لوقائع التجربة الخارجية، بل لتأويل (قوة): تُبقي الفكرة التي يمثلها التمثالان حاضرة ابداً، فصورة التمثالين هنا.. ليست مقصودة لذاتها، بل لتشفيرها عن دلالات تنتمي الى مستوى آخر غير منظور. وذلك بمثابة (التأويل) عن خاصية الفكر الاسطوري المتحرك في بنية الفكر الحضاري البابلي.

 

Comments powered by CComment

Lock full review www.8betting.co.uk 888 Bookmaker