د.امل بورتر

الفن الآخر والحضارات المتباينة

Posted in د. أمل بورتر

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 

د. امل بورتر

نشرت في مجلة الفنون الكويتية

 

عند البحث ودراسة الفنون التشكيلية  نجد أن النتاج ألفني ألأوربي هو المعيار الذي تستند عليه القيم الدراسية او الافكار النقدية و  الاستطيقا ,  ,ابتدأ من الفن الاغريقي والروماني  ومرورا بفنون ما قبل عصر ألنهضة المتقشفة نوعا ما ، وفنون عصر ألنهضة المنفتحة  والغنية فنيا , بكل الابعاد ،و بنفس الوقت ارست دعائم الفنون المتقدمةو الحديثة، وما تلا هذه الفترات من مدارس مختلفة وصولا إلى ما بعد الحداثة، كل هذه الفنون تعتمد قوانين معينة في تقيم العمل ألفني وتستند على القيم التي تعارف عليها المجتمع ألأوربي خلال كل تلك العصور ، وأنتقلت هذه القيم إلى بقية المجتمعات واصبحت المعيار الصحيح والمعتمد للدراسةو للنقد ألفني ولكل التصنيفات والتقسيمات ألفنية.

 

 إن أوربا  خلال العصور المظلمة لم تطلع على الاعمال  ألفنية للحضارات الأخرى والمختلفة وبقيت كذلك لعصور طويلة ،ولم تكن تهتم بتاريخ اي منطقة من العالم سوى ما يتعلق بالكتاب المقدس من تاريخ ومواقع جغرافية  اثاريةاوربية بحتة ،اذ كانت موروثاتها التي تشكلت منها قيمها عامة.

 

 ولكن بظهور الفكر ألأوربي التوسعي، والذي ادي إلى ما نطلق علية بالإستعمار والهيمنة ألأوربية على الكثير من الدول المختلفة والبعيدة، أن كأنت اسيوية او افريقية او دول امريكاالجنوبية، ففي هذا الوقت بالذات بدات تطلق على كل الكثير من تلك الشعوب صفة شعوب بدائية وأخذت أوربا في استغلال هذه شعوب ونهب ثرواتها، وبنفس الوقت سعت جاهدة  لتغير قيمها الاجتماعية والثقافية والدينية، كما وفرضت الكثير من المفاهيم ألأوربية، بكل ابعادها ،على شعوب تلك  الدول المختلفة.

 

 عندما تمت السيطرة ، على مقدرات تلك الشعوب جرىالتعامل معها على أنها شعوب همجية  لا تمتلك حضارة( او ثقافة ) من التي اعتاد عليها المجتمع ألأوربي، واعتبرت كل النتاجات ألفنية التشكيلية التي وجدت ضمن تلك المجتمعات غنائم حرب، وصنفت  على أنها ادوات طقوسية لأديأن وثنية ، في حين أن النتاجات الثقافية اعتبرت مجرد اساطير وخرافات.

 

 توصلت أوربا حينها إلى قناعة بأن هذه ا لمجتمعات لا تعي  ذاتها ،وأنها تغرق في سبات من التخلف ، كما وأنها لا تدرك اهمية التمدن حسب  الفكر  ألأوربي المفعم بالتجربة الاغريقية واليونانية، والذي وظف هذين التراثين ليكونا الاساس  لقولبة الديانة المسيحية وفق هاتين الحضارتين.

 

 أخذ المفكرون ألأوربيون ابان هذه الفترة اطلاق صفات  "البدائية" او "السذاجة" على كل من كأنوا يغنمونه من نتاجات فنية،  ولم يهتموا بنوعية المنتج  بل بالمادة الثمينة التي صنع منها ،واذا ما تم استعراضها او الإشارة اليها فلم يكن ذلك سوى لتاكيد أن البعثة الامستعمارية تلك قد حصلت فعلا على غنائم من  المناطق او البلدان المقهورة والمستلبة.

 

وفي عام 1520 لم يستطيع الفنان الكبير البرت ديورر اخفاء اعجابة بالصنعة المتقنة لنتاج قطعة معدنية من المكسيك، و كذلك لم يخفي غيره من الفنانين تقديرهم واعجابهم بالأنجازات ألفنية  التي ا بدعها صناع وفنانين من تلك البلاد البعيدة. وهذه اللقي نظمت لها معارض مؤقته ليطلع عليها أصحاب الشأن من ألأمراء والحكام  ورجال الدين والمتنفذين ولكن لفترة محدودة جدا ، وبعد أنتهاء المعرض كانت اما أن توزع بينهم كهدايا تذكارية لغرابة منشائها وشكلها او تصهر كمادة معدنية ذات قيمة لغرض استعمالها مجددا ،كذلك كان يتم تفكيك ونزع الاحجار الكريمة لاعادة إستخدامها في تزويق  المنتجات التي تستوجب استخدام ألأحجار الكريمة،  مثل الحلي و المواد الطقسية الكنسية او للتحف التي  يتم بها تزويق القصور.

 

منذ عصر ألنهضة أعتبرت النشاطات الثقافية التي تندرج ضمن مدلولات   تارخ الفن مجرد نشاطات اكاديمية محدودة تتمحور حول مفاهيم عملية الخلق الابداعي و تتعلق بشرح ووصف عمل فني   يصور مواضيع دينية او مثولوجية سامية.

 

 لقد ساد منطق تفسير و فهم وشرح مفهوم الفن  على أنه تجربة تدخل ضمن عوالم المثالي عوضا عن الحقيقى،  كما وأن محاور و أساليب الأنتاج ألفني للفنون التشكيلية تعتمد اساسا في بلورتها  على النتاجات ألفنية الاثارية القديمة لا التجربة الحقيقة، هذه التجربة أن كانت نابعة من الواقع او مستوحاة من مملكة الخيال الواسعة او استجابة لدافع وجداني.

فأن الاثار الكلآسيكية( اغريقية –رومأنية) هي الاصل والالهام والاساس الذي يستند علية الفنأن في خلق العمل التشكيلي من الشكل form و إلى المضمون context  

 

أن السيطرة الكنسية والطروحات الدينية المتعصبة  في هذه الفترة ،كانت المسيطرة على سيرورة الخلق ألفني بكل ابعاده، ولكن هذا لا يعني عدم ازدهار نتاجات فنية تتمحور حول التعاليم الكنسية ،أن الكثير من الابداعات ألفنية قد أنتجت في هذه الفترة الا أنها كأنت ذات مواضيع   subject matterمحدودة ومحددة ولكنها تشتمل على كل مقومات و تقنية وابعاد العمل ألفني الجيد.

 

 لم يتبلور فكر استقصائي اكاديمي إلا في الفترات التي تلت عصر ألنهضة، ولم تكن هناك  فروقات واضحة بين الاساطير والحقائق فيما يتعلق بالتاريخ غير ألأوربي،  غير أن التاريخ الذي استحوذ على اهتمام النخبة الاكاديمية  كأن التاريخ الديني المحض.

 

 وبإنتهاء فترة عصر ألنهضة  وولادة إرهاصات جديدة ظهرت مدارس فنية،  ,ومنها المدرسة الكلاسيكية الجديدة التي ساهمت في طروحات مختلفة وطليعية  عن تلك الفنون القادمة من بلاد بعيدة ،كما وأن للثورة الفرنسية والثورة الصناعية الأنجليزية كان الباع الطويل في تغير الكثير من وجهات النظر، ليس المفروض أن تكون للآفضل في فهم وتقيم نتاجات تلك الشعوب ،ولكن قدمت طروحات متعددة وجهات  نظر مختلفة واستقراءات متباينة، ساعد هذا التباين والحرية في القراءات  إلى الوصول لممارسات  جديدة تتعلق بالفنون التشكيلية لحضارات أخرى.

 

كما أن التوسع الفرنسي بشكل خاص وألأوربي بشكل عام اديا إلى الاطلاع على مناخات مختلفة، أن كأنت اجتماعية او حضارية، ساهمت هذه المناخات الجديدة في بلورة مواضيع وتوظيف افكار ومواضيع متنوعة ومتباينة وذات  ابعاد جديدة مما ساعد على خلق بيئة فنية( ادبية –تشكيلية)  تدعو وتتطلع إلى التغير والتجديد محاولة منها لربط افكارها  التي يغلب عليها المنطق والعقلأنية ، ولكنها تدعوبنفس الوقت إلى التشكك والبحث والاستقصاء   عن عوالم سحرية خيالية روحأنية متاتية من الشرق عامة.

 

أخذ الاهتمام ينصب على المواضيع الشرقية او ما يعرف بالاستشراقية وصارت  تظهر بوضوح وكثرة المواضيع التي تحمل نفسا شرقيا- افريقيا

ولكن رغم التاثر الواضح بها، وسيطرة الاجواء المفعمة  بالخيال والاحلام، غير أن هذه النتاجات التشكيلية المثيرة للآهتمام  والمشبعة بالرهافة والحساسية ألفنية المدهشة  كأنت قد نفذت  من وجهة نظر الغالب ضد المغلوب، والقوي ضد الضعيف، والمثقف او المتحضر ضد الوحشي او البدائي، ورغم أنها اتسمت بالحيوية المفعمة الا أنها كأنت تفتقد الاخلاص والامأنة ، فنجد لوحة الأنسة  ميلي دي كاميلوت في حمامها للفنأن جين مارك ناتيير )(1685-1766)خير مثال على هذه الطروحات.

 

أن  الشخصية الرئيسية في هذه اللوحة، تجلس  على كرسي مرتفع وموقعها في منتصف اللوحة ،وتبدو كبيرة الحجم بالنسبة لبقية الشخصيات المهمشة،و التي تخدمها، كل تلك الشخصيات بسحنات داكنة، أن نظراتهم مصوبة نحو هذه المرأة بكثير من الاهتمام والتاليه، وحتى كيفية تعاملهم مع ملابسها او حليها تدل على الأهمية وعلى أنها المحور الذي يستقطب العناية والرعاية ،وأنها النقطة التي يجب أن يرتكز عليها النظر اوربما التبجيل والتعظيم ،بشرتها ناصعة البياض ورقيقة، في حين نجد العبيد وقد ارتدوا الملابس واغطية الراس، في الوقت الذي يساعدونها في عملية الاستحمام ، وكل ما يحيط هذه الشخصية  من السجادة والمعطف المنزلق من على جسمها ،يوحى لنا بكونهما منتوجات شرقية فهذه اللوحة تقول لنا بدون ماربة كل ما هو شرقي مسخر لهذه المرأة ألأوربية.

 

أن ديلاكروا الشخصية ألفنية الفذة  ذو الأسلوب الخاص في التعامل مع الالوأن  والذي بشر بالمدرسة التعبيرية ، اعتبر أن افضل المواضيع الأنشائية هي المواضيع الشرقية( الاستشراقية) التي تحمل صفة الاكزوتيكexotic( الغريب مكأنا وتعبيرا) وعندما رسم مواضيعه التي نفذها  او استوحاهاخلال وجوده في شمال افريقيا  فأننا نجده قد حول النساء البدويات إلى ” شئ" ذو  زهو ورونق او" مادة " ذات فتنة حسية فحسب ومنحها صفات جسدية بعيدة عنها المرأة البدوية-الافريقية بل صفات اقرب إلى المرأة ألأوربية،و بدون التعبير عن جوهر المرأة البدوية كما فعل في مواضيعة التي تصور المجتمع او المرأة الفرنسية  اذ عبر عن جوهرها، كما وقد استخدمها لتمثل الحرية في احدى لوحاته المشهورة .

 

 ولم تعطي أوربا اي اهمية لما تقدمة تلك المجتمعات من نتاجات حضارية عامة، وجل الاهتمام كأن منصبا على المنتجات المادية ذات القيمة المالية التي يثمنها السوق،  من بضاعة متعددة الاصناف قد تدخل من ضمنها صناعات حرفية وفنية، الا أن الدول المستعمرة لم تسبغ عليها  اي قيمة فنية  بل كأنت مادة  ثمينة استهلاكية صرفة. في حين أن  تصوير الناس كأن يدخل ضمن قوالب حسية بحته، النساء غالبا  جاريات او عاريات في الحمام والرجال في معظم الاحيأن  تابع لصاحب مقام اوربي او عبد يقدم خدمة

 

 ورغم ما تقدم الا أن الفكر الأنسأني، ونتيجة لتراكمات معينة، وبظهور حركات سياسية مختلفة، والحد من السيطرة الدينية،  والمواكبة على الدراسات الاجتماعية والعلمية والفلسفية والاقتصادية التي ازدهرت نتيجة لارهاصات تلك المجتمعات، ولترسخ قيم و  تطلعات جديدةوممارسات ديمقراطية ، وأنهيار أنظمة مستبدة نتيجة لحروب او ثورات ، حدث تحول في المفاهيم  عامة، و ظهرت  الاصوات والممارسات  التي تشير إلى اهمية النتاجات التي تتمتع بها الدول الشرقية او الافريقية وبدات الدراسات الاكاديمية تولي هذه الفنون الاهتمام وتفرد لها البحوث  وتشجع التخصص بها.

 

ولكن هذا لم يمنع من الاستمرارعلى اعتبار أن هذه الشعوب بدائية، وخلال القرن الماضي ، ما بين العشرينات والثلاثينات نجد تشرتشل رئيس الوزراء البريطأني في احدى خطبه ضد  المهاتما غاندي ،الذي كان يدعو إلى رحيل الحكم البريطأني عن الهند ، يصف تشرتشل الشعوب الهندية بالبدائية.

 

 من الناحية ألفنية التشكيلية الصرفة، ظهرت بوادر الأنفتاح والاقتباس  من الفنون الافريقية والشرقية بشكل جلي مع المدرسة الأنطباعية ،اذ نجد التاثر التقني بالرسوم الشرقية اليابأنية والصينية والافريقية او امريكا الجنوبية او الجزر الكاريبية وغيرها، وهذه الفنون البعيدة تماما عن الفكر ألأوربي ،و في الاعتماد فنيا على مقومات الفنون الاسلامية  التي تولي الاهتمام العميق لأستخدامات  الزخرفة والتسطيح، وخير امثلة من هذه الفترة جوجأن ، ديكا، وسلر و واقتفى اثرهم ماتيس.

 

 وما أن أنبثق  القرن العشرين وخلال مساره، تشجع الكثير من الفنأنين  والنقاد والاكاديمين على الاقتباس او القيام بالدراسات والبحوث، حتى ظهرت  التاثيرات اكثر وضوحا وعمقا وازديادا ،وحدث نوع من الاختراق لقيم وممارسات كأنت متعارف عليها، ادى إلى أنتشار  افكار تدعو إلى اعادة النظر في  البناءوالكيأن  الفكري الثقافي السائد في أوربا، الذي يعتمد فكر وفلسفة معينة. واولي الاهتمام بالنحت الافريقي وكذلك بنتاجات اسيوية وشرق اوسطية، واصبحت تعرف على أنها أنواع من الفنون وكأن للمهتمين بالدراسات الاثنوبوجية ومؤرخي الفن والنقاد

 الريادة في عرض ونشر دراساتهم وابحاثهم مما شجع الفنأنين في عملية الاقتباسات والتوظيفات الافريقية كما فعل بيكاسو، داريأن، موديليأني ونولده وبرأنكوزي في اعمالهم مما فتح الابواب واسعة امام جمهور غفير من الفنأنين او متتبعي ودارسي الفنون لمواصلة البحث والاقتباس وتطوير هذا المنحى الجديد ، كما وأن  الركود الالهامي الادبي وألفني في أوربا  نتيجةاستنزافهم للمعطيات  والافكارالمتواجدة ، جعلهم يوظفون ويستلهمون هذه الابعاد الجديدة بكثير من الحماس والجدية واسبغوا على هذه الفنون صفات الاصالة والحميميةوالتمتع بالابعاد الاستطيقية  لتبرير  الاقتباس منها.

 

رغم أن هذه الفنون اكتسبت المكأنة المهمة في استلهامات الفنأنين الا أن الشعوب التي أنتجتها ما زالت تعتبر بدائية، وأن الكثير  هذه النتاجات  ألفنية ما زالت تدخل ضمن تصنيفات الفنون البدائية.

 

في الوقت الحاضر لا نستطيع فصل النشاطات ألفنية والثقافية او ما يعرف بالحضارية عن النشاط الاجتماعي والسياسي، غير أن الدول التي رزحت تحت نير الاستعمار قد وعت ذاتها، وبدأت تدرك اهمية نتاجاتها ألفنية، كما أن المؤسسات الثقافية المتنورة في الدول التي قد اخضعت غيرها واستعمرتها اصبحت تشعر بأن عليها أن تعيد التفكير بما قد لقنت به سابقا وأن تجد لها تنظيرات جديدة تنسجم مع الفكر المتطور.

 

الا أن النقاشات ما زالت تدور بشكل مكثف وصريح لنزع هذه الصفة ألإستعمارية التي اطلقت على هذه الشعوب والفنون،  أن الكثير من المعاهد ألفنية ومن اهمها السليد في لندن ما زال يجري الحوارت ويدير ورشات العمل لغرض بحث هذه المسميات والتصنيفات.

 

ولكن عند تقديم هذه النتاجات ألفنية  من المهم أن لا يكتفي بتغير الاسم او صفتها البدائية، بل يجب أن يكون هناك وعي بأن هذه الفنون فعالة في وجدان الشعوب المنتجة، ولها قواعدها واصولها التي نبعت من تراث قديم، ومن ممارسات حضارية تاريخيةواجتماعيةو دينية اعتمدت بيئات جغرافية معينة، أن هذه النتاجات  ذات فعالية الهامية  شديدة بالنسبة إلى فنانين تشكيلين لا ينتمون اليها وأن حركات واسماء  فنية  لامعة وكثيرة قد وعت هذه المعادلة ويظهر بشكل واضح في الاقتباسات الكثيرة منها والتوظيفات الجدية لها في الاعمال التشكيليةالتي وصفت بالحداثة  وحتىما بعد الحداثة.

 

وكما يبدو لنا أن لهذه النتاجات ألفنية بعد عميق في تفاعل الفنان( الاخر –البدائي)  اذ أنها تفاعل لمضمون حياته وممارساته وحضارته وديمومته  ومعتقداته وديانته الموروثة المفعمة بالممارسات الغيبية ، اما بالنسبة للفنان المقتبس عنها ( ألأوربي او من اي مكأن اخر) اذا أن الاعتماد لم يكن فقط على الشكل الغريب المختلف بل تعدى ذلك إلى الاحساس الوجداني بها لقوتها على منح وتغذية الخيال الجامح، واعتمادها على اسسس وقواعد مختلفة تماما عن القواعد ألأوربية المتعارف عليها،  من هذه القواعد الجديدة التفكيك والمبالغة بكل ابعادهما شكلا ومضمونا،  والتحكم في التحريف( تحريف غير عشوائي) واعادة البناء بقوالب  مختلفة، واستخدامات للمواد المتباينة في العمل الواحد، والحرية في التركيب، وتتضمن ايقاعات ووتائر قد تبدو متنافرة وغير متجانسة، فلقد اصبحت الأن للفنون التشكيلية ذات النزعة الجديدة والتي تمركز أنتاجها في أوربا وبعيد جدا عن بلدان  منشأئها، اصبح لهذه الفنون قواعد مختلفة  وغريبة جدا عن تلك التي استوحيت منها من منشئها الاول في بيئتها الاصلية.

 

سنة 1908 صدر كتاب ( التجريد والاحساس باحاسيس  الاخر ) لمؤرخ الفن ولهلم ورنجر رغم أن الكتاب معني بفنون ما قبل التاريخ والفترات

 

القديمة الا أنه يقدم كشفا  فذا ويشير الا أن الحاجة إلى التجريد( وهي من صفات الفنون البدائية)" هي جاحة ملحة للأنسان لرغبة الأنسان بالالتحام والذوبأن مع الطبيعة" وبما أن الأنسان البدائي يعاني من عدوانية الطبيعة القاسية، غير المروضة فأنه يحلم بعوالم ملؤها الصفاء والسكون،

 مبتغاه  هو السعادة  والتواصل الروحي يجسده في أنتاج هذه الاعمال ،  وهي نتاجات تحمل صفات قدسية   ويسعىالفنان للبحث عن عناصر في مضامينها تحمل صفات الخلود، كما وأنه يمنح هذه النتجات تعابير تجريدية  بعيدة عن الواقع المادي المعتاد عليه،وبهذه الوسيلة يستطيع الفنان البدائي أن يجد مكانا يركن الية بسلام ودعة في خضم هذه الرؤى  الخاطفة القاسية والمتغيرة ابدا للطبيعة  الصعبة الفهم . كما وأنه يستلهم القوة الخارقة للطبيعة وويضفي على منتجاته ابعاد فوق واقعية تدخل فيها مضامين الخوف والسحر والمبالغة والقوة والغرابة.

 

 يقول ورنجر ايضا" كلما قلت المقدرة المعرفيةللأنسان في استيعاب ظواهر العالم وما يحيط به فأن هذا يقود إلى تغريبه وأنعدام التصاقه بما يحيطه وبالتالي سيقود هذا إلى أندفاعه القوي في أنتاج اعمال  فوق طبيعية مؤثرة"  هذا يعني أن اعماله ستبقى تشتمل على صفات تجريدية وأن ما ينتجه هو الصورة المثلى للمطلق الذي يتفاعل في احاسيسه ودواخله ويعيش في احلامه وتخيلاته والذي لا يحمل تفسيرا له.

 

النتاجات ألفنية التشكيلية للأنسان البدائي حسب قول ورنجر" ما هي الا  تعبير عن محاولة الهرب من واقع حياتي متقلب يصعب السيطرة عليه, اذ أنه يعيش عوالم لا تعرف الثبات او الديمومة"

 

 أن هذا الأنسان يتصرف وفق القوانين الأنية، ويصدر قرارات متباينة وفقا لتباين المواقف وتخضع لها، ولهذا عند أنتاجه لعمل  مافي لحظة خلق فنية فأنه يهرب من حياة تتحكم فيها قوة خارجية بشكل  مطلق وعشوائي، وأن نتاجه ألفني ما هو الا محض أنعكاس لهذه الحقيقة، في لحظة الخلق هذه، فأنه قد سيطر على مجريات معينة  وخلقها كيفما يتصورها ويحسها ومعادلة في قوة تعبيريها  لمحيطه ، لحظه الأنتاج هذه  بالنسبة له خارج الزمان والمكان، ولكنه استطاع أن يحدد لها الخطوط الخارجية ويجد لها حيزا ماديا نابعا عن أندفاع حسي داخلي وبهذا قد خلق شي به نظام ووحدة يسير موازيا مع شعوره ووجدانه وبعيدا جدا عن واقعه.

 

نستطيع أن نقول أن الفنون البدائية ما هي الا لغة تعبرية اذ أن ليفي شتراوس يقول " ما الفن الا منظومة علامات  ملتئمة ومتوحدة ضمن المجريات الحياتية لجمهور اوتجمع محدد، وبهذا يتحول الفن إلى لغة تتناغم منظوم وتعتمد بعدا استطيقيا وعاطفيا "

 

 مهما حاول الفنان ألأوربي فأنه بتقليده للفنون البدائية سينتج اعمالا بابعاد استطيقية قد تكون ذات مستو عال، الا أنها تنقل البعد الروحي بسطحيه، لأن الفنان ألأوربي ببساطة يجهل التجربة الحسية والوجدانية للفنان  الاخر والذي يطلق علية البدائي  تجنيا.

 

 الفنون ألأوربية كان لها قاعدة ايديولوجية واضحة وهي التمتع بالكمال  الجسدى وبلوغ الاستطيقا ألفنية، وأن الفكر الاغريقي والفلسفة الاغريقية الدينية كانت تقرن الكمال الجسمأني بالكمال والسمو الروحاني، ومن هنا ظهرت معادلات للجمال تنطبق عليها معايير فينوس وابولو رغم  أن فينوس نفذت بالاستعانه بخمس موديلات مختلفاتقمن غير الممكن ان تحمل امرأة واحدة هذه الصفات مجتمعة، بقى هذا المعيار ألفني هو السائد في أوربا إلى بداية القرن الماضي حين بدء النظر جديا في  فهم واستيعاب الحضارات الأخرى وكيفية ادلجتها للفنون التشكيلية، فالفنان السومري في تنفيذه للألهة كأن يستعير من البشر الاعتيادي خواصهم البدنية ولكنه يحورها وفقا لمفهومه لعوالم فوق واقعية، فأن اكف الالهة رقيقة ناعمة لا تشبه كف الأنسأن  المنتج ،اذ أن الالهة خلقت البشر لخدمتها فهي لا تحتاج إلى اياد واكف كبيرة وقوية لتعمل، والعيون السومرية في تماثيل الالهة كبيرة وواسعة، فهي النافذه التي تطل منها القوة السحرية وبنفس الوقت هي المنفذ لمراقبة ومتابعة البشر فلابد لها من أن تكون كبيرة ومبالغ في حجمها ، في حين أن الاقنعة الافريقية تكون كبيرة الحجم لأن في عملية عبادة  الاسلاف والتي يجب استحضارهم يختفي خلف القناع أشخص ما من القبيلة وهو من تحل فيه ارواح واجساد الاسلاف ، كما وأنها أن لم تكن تخدم هذه الطقوس فأن لها فوائد اخرة عملية في الحياة اليومية فأن الاقنعة الكبيرة التى أنتجت في بعض اصقاع امريكا الجنوبية، كانت توضع في الحانات والاماكن العامة ليختفى خلفها الأنسان وهو منزو في مكأن شبه منعزل وهويفرغ امعائه او يتبول لكي لا يعرفة او يميزه المارة ،وبعض الاقنعة صنعت لأستخدامها في حالات الرقص الطقسية الدينية او عبادة الاسلاف او العبادات الطوطمية الأخرى ((Fetishism، ويجب أن يكون لها مواصفات خاصة تجعل من الذي يرتديها ابعد ما يكون عن شكله الحقيقي، تغطي بالريش والجلود والخرز  بعض قشور الفواكة اليابسة  لتبدو لمن يشاهدها وكأنه ات من عوالم فوقية بعيدة خيالية لا علاقة لها بالواقع، كما وأن تصوير ونحت الاشخاص في حالة الجلوس المقرفصة او حتى المتكاءة كما في الأنكا، تدل على ابعاد عميقة كثيرة منها تشير إلى عملية الخلق والأنجاب، وتدل في بعض الحضارات على الخصب لارتباطها ببعد جنسي كما  وأن مفاهيمها تختلف من بيئة إلى أخرى.

 

 أن نتاجات شعوب أخرى مثل الاوبرجني والماوري  أخذت تهم الدارسين لتبنيها مفاهيم مختلفة تماما حول عملية الخلق ألفني، فأن هذه الشعوب ما يهمها هو عمليةسيرورة  خلق الأنتاج ألفني  وليس المنتوج النهائي، فأن عملية الخلق هذه تحكي عن تراث ودين  واستقراء لمستقبل وتتم بحضور القبيلة، كما وأن ابتكارهم لاعمال تنتج بصيغة  السالب كما في اشعة اكس ، اذ يظهر ما في بواطن  الشخصيات وخاصة الحيوانات من عظام واحشاء وعضلات له اهمية في عملية فهم روحانيات هذه الشعوب علما بأن هذه الممارسة تعود إلى ما  قبل ثلاثة الأف سنة وما زالت مستمرة لحد الأن والتي تسمى ( دريمنج*) وليس لهذا المفهوم علاقة بالاحلام، فهنا ينطبق قول بيكاسو عندما يصف الاعمال الافريقية بأنها عقلأنيةلأن الفنان  يبوح بالرسم او بالنحت عما يعرف وليس عما يرى.

 

لقد ساهمت السوريالية بشكل واضح في دعم مفاهيم الخروج عن الواقع واعتماد الحلم والخيال واللآمعقول واللآوعي والفرودية( نسبة إلى فرويد) والصادية ( نسبة إلى الماركيز دي صاد) والاهتمام بالامراض العصبية والعودة إلى الطفولة  والاهتمام بالمدهش والسحر، ونتيجة لهذه الابعاد فلقد وجد السورياليون في الفنون الافريقية والاسيوية او الجزر الكاريبية وغيرها مرتعا خصبا ينهلون منه مواضيعهم ويشحذون خيالهم و افكارهم  لتطبيقها فنيا على ارض الواقع وجاءت اعمالهم تنبي عن غنى في التعبير الجديد واستخدامات غير متوقعة منها الأنتاج الجاهز(ready made)

كما فعل دي شامب مع عجلة الدراجة الهوائية او المبولة، فأن التاثر بالواقع وتصويره كما يعرف ويحس لا كما يرى هي استلهمات  لمواضيع فنية  مستخرجة ومستنبطة من واقع معاش، و لكن تم توظيفها بصورة فوق واقعية ما هو الا التاثر بممارسات فن اخر لشعوب أخرى لا يجب أن يطلق عليهما صفة البدائية.

 

*Dreaming or dreamtimeمصطلح يستخدمة الاوبرجني الاسترالي يعني  المعادلات الكونية التي تتضمن الخالق والاسلاف والديانات والعقود الاجتماعية والخلقية والارض والقوة الروحية والديمومة وتعود بعض هذه الرسوم إلى اكثر من خمسين الف سنة.

Comments powered by CComment

Lock full review www.8betting.co.uk 888 Bookmaker