هجرة آلهة وادي الرافدين
بقلم د . أمل بورتر
عبدت آلهة وادي الرافدين في الأراضي المتاخمة لما بين النهرين، وفي أغلب الأحيان حافظت على خصائصها الإلهية كاملة مع تحوير بسيط في الأسماء أو الألقاب، ولقد تنقلت تلك الآلهة بحرية بين سهول وجبال وصحاري ((تركيا سوريا ولبنان والأردن)، وهناك أبحاث تشير إلى وصولها إلى أماكن أبعد مثل (الهند بلغاريا والخ))
استقرت آلهة وادي الرافدين بعيدة عن موطنها الأصلي بين أقوام يختلفون إلى حد ما عن الأقوام التي سبق وأن عبدتها، لكن تلك الدول والمدن البعيدة عن مناخها الأصلي منحتها الهيبة والاحترام والسطوة والجبروت التي تستحقها، والتي كما يبدو لنا كانت قد اكتسبتها عن جدارة قد احتلت مكانة الصدارة بين الآلهة الأخرى المعبودة في تلك المناطق الجديدة.
الأديان التي سادت في وادي الرافدين كانت على درجة عالية من التعقيد، سمح فيها لتداخل الآلهة مع البشر والتزاوج معهم، وبهذا نجد أحيانًا تحول الملوك (الحكام) إلى آلهة أو أجزاء من آلهة، وتزداد قيمتهم بفعل الزمن الذي بمروره يضفي عليهم وعلى أعمالهم أبعادًا عظيمة جديدة، ولكنهم مع هذا نجدهم يمارسون فعلًا بشريًا بالرحيل يرحلون لغاية ما مثل ما روته لنا بعض الأساطير مثل أسطورة (ايتانا) الملك حيث يرحل إلى أعالي السماء ليبحث عن (عشب الولادة)، إذ لم ينجب ولدًا، وصعد السماء على ظهر نسر، ولكن الرحلة لم تكن موفقة، وأسطورة جلجامش حينما قرر السفر إلى لبنان للبحث عن النبتة البحرية وجلجامش إله- الإنسان عرف بالملك المتكبر القاسي والإله الحامي المدافع عن مملكته وأبنائها ورحلته معروفة، ولكنني هنا بصدد فكرة الرحلة، فرحلة ايتانا و جلجامش رحلة تمت بناء على حاجة الإله نفسه لتلبية رغبة أعتقد بأنها مهمة جدًا ويجب القيام بها للبحث عن عشب الولادة أو ينبوع الحياة السرمدية ونبتته، وبالتالي للتمتع بصفة الخلود بطريق أو آخر وابتغاء الديمومة التي كانت المطلب المُلح والمشروع.
ولكنني هنا سأتحدث عن آلهة وادي الرافدين أينانا- عشتار، وانتقالها من وادي الرافدين إلى مملكة أوغاريت، حيث اكتسبت اسمًا جديدًا هو عناة، كما وأضفيت عليها أبعاد وصفات أخرى.
مملكة أوغاريت تقع إلى الشمال من مدينة اللاذقية السورية، وتاريخها يعود إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، واللقى التي عثر عليها أغلبها تصنف ضمن التأثير السومري، إذ أن أوغاريت كتبت على الطين كل سجلاتها وبخط مسماري، فوثقت معاملاتها التجارية وأسرارها الملكية ومواثيقها ومعاهداتها وأناشيدها الدينية وقصائدها الغزلية باللغة السومرية.
ورد اسم أوغاريت في النصوص السومرية المكتشفة في (ماري) و (تل العمارنة)
ظهر من النصوص المكتوبة على الرقم الطينية أسماء كثير من الآلهة، وما يهمنا هنا هو دور الآلهة عناة، إذ كانت تلقب بالعذراء وتقاسمت مع عشتارات وهي آلهة أخرى للخصب وضيفة الآلهة عشتار البابلية، فهنا تتحول آلهة بابلية إلى آلهة أخرى وتتقاسم صفات آلهة محلية وتكتسب اسمًا جديدًا هو عناة.
وصفت (عناة) بأنها (عديلة الأمم) وكان لها موقعها الخاص في قلب الإله بعل الذي كان أحيانًا يصفها بالأخت الحبيبة.
يتحدث الإله بعل في هذه القصيدة الجميلة الرقيقة عن الآلهة (عناة)، ويرسل لها هذه القصيدة كدعوة حب فيقول:
على صدرها تضع المرجان
رمز لتقوى المنتصر
بعل
وتحت أرجل عناة
قدم الاحترام
وأنحني
تمجيدًا لها
الحرب على الأرض مخالفة لإرادتي
بلقاح المحبة لقح الأرض
أسكب السلام
في كبد الأرض
والعسل في قلب الحقول
أبعد عنك
هراوتك
وسلاحك
ولتسعى أرجلك نحوي
لتسرع خطاك
فعندي
رسالة لك
وكلمة أعيدها عليك
إنها رسالة الشجرة
ووشوشة البحر
وهمس السماء والأرض
والمحيطات والنجوم
إني أدعو السماوات والصاعقة
لتدعو الناس
ليعلم سكان الأرض الرسالة
تصل الرسالة إلى الآلهة عناة وترد عليها بإرسال رسولين بالجواب، ولكن كما يبدو أن الحببية كانت في شوق إلى المنادي، إذ لم تنظر عودة الجواب بل تطير محلقة متجهة إلى (بعل)، وفي الأفق البعيد يلمحها بعل، فيستعد لاستقبالها وينحر لها ثورًا وبقدومها تبتهج الطبيعة وتتكاثر الحيوانات وتبنت الزهور، فإنها آلهة الخصب كما تقول الأسطورة الكنعانية وهي عشتار السومرية التي تبحث عن دموزي وتغنى (عناة)
وتقول:
سأضع في الأرض خبزًا
سأضع في التراب لقاحًا
وسيكون للأرض قربانًا
وللحقول تقدمات
فهذه هي نفسها انانا-عشتار آلهة الحرب، ولكن في نفس الوقت توصف بأنها ملكة السماء ونور العالم وآلهة الحب والخصب التي وجدناها في ملحمة تدعو جلجامش ليكون حبيبها
إذ تقول له:
تعال يا جلجامش وكن حبيبي
سأعد لك مركبات من حجر اللازورد والذهب
وستربط لجرها شياطين الصاعقة بدلًا من البغال الضخمة
في بيتي ستجد شذى الأرز يعبق
وستقبل قدميك عتبة الدار
سينحني لك الأمراء والملوك
ولكن جلجامش يرد عليها مذكرًا إياها بعيوبها قائلًا:
أنت الموقد الذي تخمد ناره في البرد
أنت كالباب الخلفي
لا يحفظ من ريح
أو عاصفة
أنت قصر يتحطم داخله الأبطال
ويستطرد جلجامش قائلاً:
تعال أقص عليك مآسي عشاقك
من بعد تموز حبيب صباك*
الذي بكيت عليه سنة بعد سنة
أغويت طائر الشقراق المرقش
وكسرت جناحه
وصار في البساتين يصرخ مناديًا
جناحي .......جناحي
الخ.......
ويستمر جلجامش مذكرًا إياها بعشاقها وما آل إليهم الحال، بدأ بطير الشقراق الكسير الجناح ثم الأسد والحصان وبعده راعي القطيع والبستاني الذي مسخته ضفدعًا، وهكذا تسير ملحمة جلجامش لتحدثنا عن تفضيل جلجامش لأنكيدو على عشتار ليكون شريكًا له...
عناة كانت توصف بالآلهة الوادعة الطيبة الرقيقة وسيدة السماء وعشيقة الآلهة وبالبتول رغم إنها كانت زوجة لبعل وقد شاركت الإله ايل فراشه أيضًا لتوكيد معنى الخصوبة ومنح عملية الإخصاب بعدًا إلهيًا خارقًا، ولكن عناة الوديعة العطوفة تتحول إلى إلهة حرب تبحث عن الانتقام وتتسلح بالقوس والنبال بعد أن اكتشفت مقتل حبيبها بعل، هنا تختلف الرواية عن رحلة اينانا--عشتار وتموز إلى العالم السفلي، إذ أن تموز يعود عند تبدل المواسم حلول الربيع، ولكن بعل لا يعود إلا بعد سبع سنين، وتقاتل عناة بضراوة وتدحر الإله موت، ولكنه يستعيد قوته كل سبع سنين وتستمر دورة السبع سنين رخاء ومثلها جفاف وخلال المعارك تحارب عناة بضراوة وقسوة ووحشية ويصفها والدها الإله ايل مخاطبًا إياها:
أعرفك يا ابنتي
أعرف أنك مثل الرجال
ليس في الإلهات مثلك
لا واحدة منهن
تضارعك قوة
لا ضراوة مثل ضراوتك
وعندما تنتصر عناة على الإله موت فأنها تقطع جسده إربًا إربًا وتنثره على الحقول. وعناة ترحل أيضًا تترك أرض كنعان لتذهب إلى مصر حيث أخذها معهم الهكسوس إلى مصر هناك أخذت شكلًا علويًا ساميًا آخر وارتفعت إلى أعلى مراتب الآلهة المصرية الفرعونية وتغير اسمها وفقًا لبيئتها الجديدة لتصبح هاتور ربة الآلهة.
Comments powered by CComment