د.امل بورتر

بساط السماوة، وأستلهامات فنية من الحضارة العراقية

Posted in د. أمل بورتر

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

بقلم د.امل بورتر .

 

زرت مدينة السماوة لعدة مرات ومررت بالضفتين وتنعمت بحفاوة وكرم أهلها، ولكن هدفي كان بساط السماوة.

هذه اللوحة الفنية التي بهرتني دائماً، ولم أعرف أي شيء عنها سوى جمالها، كل ما أعرفه أن نساء السماوة برعن في صناعتها وهذه البسط مقترنة بهن.
لا بد من وجود مبررات إنتاجية أو تجارية أو ربحية تتعلق بهذا الإنتاج الفني، إلا أن ما يثير اهتمامي هو الجانب الفني التي تنفذه أنامل نسوية يشاع عنها أنها ساذجة، لكن المؤكد للعين الفاحصة أن ذلك النتاج ذا الجدوى والفائدة المعيشية قد حمل في طياته خيالًا خصباً وعمقاً جمالياً يمت بالصلة لإرث فني غزير يعود إلى سومر وحتى إلى الفترات شبه الكتابية، توارثته الأجيال بوعي أو من دون أن يعلن للملأ عنه، كما هو حال شجون الإبداع العراقي الذي نشاهد غزارته كماً ونوعاً في كل المجالات الفنية التراثية والفنون الجميلة والثقافية المختلفة.

 

117430256 356874861972327 321913964077845241 n

 

مدينة السماوة لها مثل أمهات مدائن العراق قصة مع التاريخ، وهواجس مع الجغرافية، وشجون مع الاجتماع البشري والتقاليد الموروثة، فهي من مدن العراق الجنوبية التي ورثت أعظم مدن العراق شهرة وهي (أوروك) التي يحدثنا التاريخ عنها بكثير من الفخر والاعتزاز.


وعودة إلى ذلك النوع من النتاج الحرفي من الغزل والنسج اليدوي الفاخر المسمى الأزر (مفردها إزار) أو بساط السماوة، والذي ينسج بعناية ويلون بألوان زاهية، وتضفي النسوة هنا في مخاض التفريغ الفني والتزويق، حبكة من الأشكال الغزيرة دون تفريط أو مبالغة أو حتى تقتير، حيث نرصد دقة وأناقة تكتنف تنوعات وتوزيع تلك الأشكال، ومما يلفت النظر أن ثمة انسجاماً في وحداتها الزخرفية، حيث يتلاقى العنصر (الموتيف) مع مثيلاته في رشاقة وخفة، وثمة انسجام تام بين الوحدة الزخرفية واختيار اللون الذي ترصده العيون المجربة والفنية منها وحتى الساذجة، كل ذلك يتمخض عن مهرجان لوني غني يتسم بالانسجام والتناغم الفذ ويتحدث عن حس لبق مرهف بالجمال ومكامنه.

ان ترتيب الجزئيات والمفردة التشكيلية المستعملة في بساط السماوة تستطيع بسهولة ويسران ان تعود بنا او بالرغم منا وبدون تردد الى البعد السومري في الخطوط المتعرجة التي استعملها الفنان السومري تعبيراً عن النهر أو الدوامات الرملية والكثبان و إلى الأختام الاسطوانية وقطعة اخاذة يطلق عليها راية سومر وفي كل ذلك كيفية تصوير الجسم الانساني ،او وردة البابونج الثمانية التي زخرت بها النتاجات الاشورية، أن الاجسادالبشرية و الحيوانية و النباتية مع الاشكال الهندسية مع المبالغات في الاستطالة او العكس تعيدنا الى الكثير من النتاجات حتى لفترة ما قبل التاريخ من فخار جرمو وحسونة وسامراء الخ رغم ازدحام المفردات في البساط الا ان هذا الازدحام يقودنا الى الكثير من نتاجات الحضارات المختلفة والمتنوعة في ارض العراق التي برعت في تنوع التشكيلات واستخداماتها بكرم وابعدت عنها الملل والرتابة كما نلاحظ ذلك في توظيف النتاجات الحضارية المتنوعة من حضارات العراق القديمة اذ نجد لمحات من طيات ملابس الحضر و تطبيق مفهوم الفكر والفلسفة الإسلامية في تنفيذ المواضيع التشكيلية مثل تجنب الفراغ لانه من عمل الشيطان والتركيز على الامتداد اذ انه يقود الى امتداد الازل الروحاني ، كلها تدخل ضمن هذا النص التشكيلي السردي الذي يقص لنا حكاية هذه الارض وبيئتها بكل مكوناتها والحضارات التي سادتها واينعت بها .

النباتات والأشكال الحيوانية والهندسية والآدمية كلها إيحاءات مشتركة بين تراث عريق وبين إنتاج امرأة تستخدم خيطاً من الصوف وشعر الماعز بمساعدة إبرة أو مخيطاً.
أحتفظ بعدد من بسط السماوة في بيتي، ولقد رافقتني في كل هجراتي وتاريخها يعود إلى عرس إحدى الجدات في العائلة، لا أمل من النظر إلى هذه البسط، تسحبني معها إلى عوالم سحر المرأة وإتقانها لصنعتها، إذ أجد بشكل عام ان خلفية البساط محاكة بالجومة اليدوية وتكون من لون غامق نوعاً ما، وبشكل ساذج وبسيط سداة ولحمة لا تعقيد ولا صناعة متطورة، عمل بسيط متواضع يهيأ ليستقبل ويكون خلفية لتصميم ذكي متطور غني، وعفويته مقصودة ومحسوبة بدقة عالية وكذلك كل مفرداته التصويرية واللونية.


إن صناعة السجاد والنسيج والبسط علم وفن وتقنية كلها قائمة بذاتها ومعلوماتي في هذا الصدد ضئيلة جداً لا تخولني حق البحث فيه، ولكنني أسمح لنفسي بالكتابة عن بساط السماوة من منطلق رد الجميل وارتبطه بالبعد الفني للحضارة في ارض سومر واكد وبابل ، إذ أن بساط السماوة أنقذني من الإحباط والانهيار النفسي، وبسبب الإعجاب والانبهار وكمحاولة تقدير واحترام لفكر وخيال تلك المرأة من السماوة التي تنسج وتطرز قطعة فنية على هذه الدرجة من الحس الجمالي العالي. وايحاءات ارض سومر والاستناد والاعتماد على موروثات الحضارة الرافدية التي قدمت الكثير للعالم .
وقد تكون نفس المرأة السمراء التي نافست نخل السماوة في الجمال والبهاء وتغنى بها الشاعر الشعبي.


إن صناعة بساط السماوة تتم على مراحل، من مرحلة تهيئة خيوط الصوف أو الشعر والتي أغلبها من شعر الماعز ثم تلوينها بالألوان الطبيعية المستخرجة من النباتات المتوافرة في بيئة السماوة أو التي تدخل في استعمالات الحياة اليومية، هذه المعلومات التقنية أحتاج إلى من يوضحها لي بشكل تفصيلي وأترك ذلك للمهتمين ولأهل السماوة.
لكن ما يهمني هو صياغة الوحدة التشكيلية التي تحدثت عن ايحاءاتها ومصادرها الاثارية والتاريخية الان اتحدث عن تناغمها مع بعضها بعضاً، فلو نظرنا إلى البساط وقسمناه إلى أجزاء بدءاً من الحافات، فسنجد تلك المرأة البارعة قد فكرت في أن تترك مسافة سنتمتر ونصف غير مطرزة بأي لون لتحصر أشكالها ضمن إطار، (الإطار للوحات الفنية الذي يفخر عصر النهضة بسبق اكتشافه وينسبه إلى دافنشي في حين نجده في حضارة العراق القديمة قدم سومر واكد وقد اطر الطين عندما كتبوا ونقشوا عليه في نتاجات الاختام الاسطوانية او موتيفات الصور واللوحات الجدارية الخ وكثير من النتاجات المتنوعة الاخرى ) تم تبدأ بتحديد عملها بخط مطرز طويل لا بداية ولا نهاية انها الابدية التي يذكرنا بالفلسفة الاسلامية للفكر التشكيلي الواضح جدا في نتاجات الواسطي ،هذا الامتداد سيكون مقاسها لحصر الأشكال التي تنبع من مخيلتها ومستوحاة من حضارتها / تراثها وبيئتها، ثم تقسم مساحة عملها إلى ثلاثة امتدادات طويلة شبه متساوية المقاسات.
الامتداد الأول والذي يقابله الامتداد نفسه من الجهة الثانية مقسم أيضاً إلى ثلاثة امتدادات، اثنان منها في كل جانب متساويان ويأتي الامتداد الثالث والأخير والذي هو أقرب إلى وسط البساط ليكون أقل عرضاً واتساعاً، ثم يتوسط هذه الامتدادات الثلاثة امتداد طولي آخر ما أسميه أنا بيت القصيد، إذ توزع هنا كل معارفها من الوحدات التشكيلية المعقدة وما ورثت من اسلافها والمخزون المعرفي في اللاوعي ولكن بعد أن تحولها إلى لغة بسيطة مجردة، هذا الامتداد الوسطي هو بؤرة ارتكاز النظر مقسم إلى وحدات رباعية الشكل وكل وحدة جوهر قائم بحد ذاته بمدلولاته وتنوعه الزخرفي، هذا هو البناء أو التركيب الإنشائي العام للوحة البساط.
البساط مصمم بشكل تلقائي عفوي فذ مبهر ، الوحدة الزخرفية المستعملة تتنوع ما بين الخطوط المتعرجة، المائلة أو المستقيمة والأشكال الهندسية مثل المثلث والمربع والمعين والجمع بينها، ثم الوحدة النباتية المتنوعة نسبياً من زهور وفروع نباتات، ثم تأتي الأشكال الحيوانية والبشرية كما في الكثير من الاحتام الاسطوانية في حضرات العراق القديمة منذ سومر الى اشور وهلم جرا.

 

 

117665950 1668860776623968 7324028337191247239 n

الخطوط المختلفة والأشكال الهندسية تأخذ حصة كبيرة في التصميم، وهذا يعود بنا إلى الفلسفة الإسلامية في

الفن، حيث امتداد الخط كتعبير عن امتداد الحياة إلى أبعاد كونية أخرى، وفي أغلب هذه البسط نجد أن الخط لا ينتهي إلا في حالة كونه إطاراً للشكل العام، أما الخطوط الأخرى فهي متداخلة ويصعب معرفة بدايتها ونهايتها.
البساط ككل محشو بالمفردات التشكيلية من دون مغالاة او اقحام ، ولا نجد مساحات فارغة كما في تصميم بقية أنواع السجاد أو البسط الأخرى لحضارات غير رافدية ، وهذا أيضاً دلالة أخرى تعود إلى الفلسفة الإسلامية في الفن كما اسلفت سابقا ، فإن الفراغ من عمل الشيطان، الأشكال الهندسية أيا كان منشؤها كانت دائماً محور اهتمام الفنان المسلم، ومن مميزات الفكر والفلسفة الإسلامية التأكيد على تفكيك المفردات والعناصر ثم توحيد العناصر عند تحويلها إلى مفردة تشكيلية من خلال التكرار والتسطيح، وهذه المفردات مقتبسة من المحيط العام الذي يعيشه الإنسان، فالبيئة التي تحيط بالبشر تأخذ أشكالاً هندسية لا ريب في ذلك، وهنا اقتبست هذه الأشكال ووظفت في مكانها المناسب ولم تقحم إقحاماً، بل استخدمت بكثير من الأناقة والرهافة والانسجام وبموضوعية لذا أضفت قيمة جمالية على العمل ككل.
الأشكال البشرية والحيوانية أيضاً أضيفت إلى العمل ولو على نحو مجرد، إلا أنها تتحدث بصراحة عن كونها جسداً بشرياً أو حيوانياً، ولم تقف المحرمات الدينية عقبة أمام هذه الاستخدامات، فنجد صورة لجسم على الأغلب أنثوي لمجرد وجود انحناءات فيه تنبئ بذلك، والأشكال الحيوانية قد تكون لطيور أو أسماك يصعب تحديد فصيلتها تماماً إلا أنها أقرب للطيور والأسماك المنتشرة في بيئة السماوة والجرء الجنوبي من العراق مع تجريدها من معالمها التفصيلية الدقيقة.
الأشكال النباتية لها حضورها الواضح من زهور وأشواك الخ، هذه الأشكال يسهل تطويعها في عمل الإبرة والخيط، ومن السهولة أن تملأ بها الأماكن التي تصعب فيها إضافة أي شكل هندسي، إذ أن النباتات مطواعة في أحجامها وأشكالها، ومهما كانت درجة تنفيذها فطرية فستبقى تحمل دلالاتها، لذا نجدها منثورة على أرضية البساط بسخاء وكرم متناهين.



 

 

 

الألوان في بساط السماوة فرحة بهيجة، تتكرر من دون ملل ورتابة، بل تضفي على الوحدة التشكيلية بعداً واقعياً أحياناً وأغلب الأوقات بعداً خياليا تماماً، إلا أنها من دون شك قد أثرت عليها شمس السماوة الساطعة ومنحتها ألواناً برتقالية، حمراء وصفراء بدرجات مختلفة (غروب وشروق)، نجد هنا في بساط السماوة احتفالية لونية على درجة عالية من المرح والبهجة مما تتيح للناظر أن يتنعم بجوٍ ملؤه الجمال والحبور والفرح.
بساط السماوة عمل فني فطري متكامل يحوي كل مقومات العمل الحرفي بمواصفات عالية، من سعة الخيال إلى تعدد نوعية الوحدة التشكيلية، وتنوع الألوان، وأن هذا العمل الفني ما هو إلا نتاج للإيحاءات البيئية واستلهامات التراث من اثار او افكار ، قد نفذ من دون حذلقة وتصنع بل بتمام العفوية والبساطة والتلقائية.

 

Comments powered by CComment

Lock full review www.8betting.co.uk 888 Bookmaker