عيد الساكيات و ممارسة الحرية الطقوسية في العراق القديم
بقلم الباحث الآثاري حكمت بشير الآسود
اشار الامير كوديا امير سلالة لجش السومرية (2144 – 2124 ق.م) الى هذا العيد في مناسبات عدة وفي كل مرة يتم فيها تشييد معبد جديد يحتفل بما يعرف (انطلاق الحرية الطقوسية لمدة سبعة ايام) يشارك فيها جميع الناس بحرص شديد على اشاعة الاجواء الهادئة في المدينة ونبذ كل ما يعكر صفوها وسكونها، في اليوم الذي يدخل فيه (ننكرسو) الى معبده تعقبه سبعة ايام من الاحتفالات في مدينة لكش يتم خلالها عملية التطهير وانتشار العدالة، سبعة ايام تتوارى اثناءها الطاعة حيث يصبح الخدم سادة ويسير الخادم والسيد جنبا الى جنب في المدينة، وينام المقتدر والضعيف الواحد جوار الاخر اذ تعم عدالة (الاله ننكرسو والالهة نانشة) وينهزم الاشرار الى خارج المدينة ولا يظلم اليتيم من قبل الغني ولا الارملة من قبل القوي ، فنقرا في النص الاتي :
اعطى امير المدينة تعليماته الى المدينة
كما لو كانت رجلا، وتبعته لجش بالاجماع كما يتبع الطفل امه
طهر كوديا المدينة وعقمها بالنار
ننكرسو مثل مدينة طاهرة على ارض طاهرة قد بنى
لم يضرب احد بالسوط (اثناء العمل) ولم يجلد احد
الام لم تضرب وليدها... لم يضرب معول في مقبرة المدينة
ولم تدفن أي جثة، مغني الكالا، لم يجلب قيثارته
ولم يعزف أي اغنية حزينة، النائحة لم تنح في المدينة
لكش ، من له دعوى (على احد) لم يتسبب في ذهاب
خصمه الى مكان اداء القسم، والدائن لم يدخل بيت المدين
لمدة سبعة ايام لم تطحن الحبوب والامة غدت تساوي سيدتها
والعبد اخذ يمشي بجنب سيده في مدينتي... ولم يظلم القوي الارملة
وعندما باشر كوديا ببناء معبد الايننو (الخمسين) فقد باشرت الالهة جميعا العمل مع كوديا فيذكر (الاله انكي ملآ الاسس بالتراب ، الالهة نانشة همت بقراءة التراتيل ، والالهة كامتدوك امرت بوضع الاجر المخصص للبناء ، والالهة باؤو نشرت الزيت والعطر ، والكهنة وقفوا بجانب البيت )، كوديا قام بحمل سلة البناء على راسه مثل التاج وقام بوضع الاسس ، وفي اليوم السابع وضع الاحجار حول البيت ونصب المسلة الرئيسية ليبدأ البيت يكبر مثل جبل من اللازورد :
في احتفال المعبد لسبعة ايام ، النساء والاماء يكونون متساوين مع سيداتهن ويسمح للعبيد بالوقوف مع اسيادهم
ان عيد انطلاق الحرية الطقوسية الذي يتميز بالغياب الكلي للسلطة نجد له امتدادا تاريخيا، فهناك طقس اشوري يمثل جزء من هذا العيد ويتميز بانه يتضمن تجسيدا لانفعالات الجمهور الصاخبة والركض الهوجائي في الشوارع والمصارعات الرياضية التي يقوم بها المؤمنون في الشوارع .
ويحدثنا المؤرخ (بيروسيس ( Berose الذي كان كاهنا بابليا مطلعا على الامور ويتحدث عن معرفة، ان هناك عيد يدعى عيد الـ (ساكيا sacaea ) كان يتم الاحتفال به في بابل سنويا ويستمر لمدة خمسة ايام ويمثل مناسبة فرح عام، كان يتم خلاله تغيير الادوار ما بين السادة والخدم اذ يصدر الخدم الاوامر الى السادة وعلى السادة الطاعة، كما كانت ملابس الملك تعطى الى شخص سجين محكوم عليه بالموت ليقوم بلبسها، فضلا عن حقه في اللهو ومضاجعة خليلات الملك ولكن بعد انتهاء فترة الخمسة ايام هذه تخلع عن هذا الشخص ملابس الملك ويجرد من حق اصدار الاوامر فضلا عن الحقوق الاخرى، وكذلك كان يضرب بالسوط ثم يوقع عليه الموت شنقا او بالخازوق، ان هذا الشخص كان يحمل طيلة فترة الحكم القصيرة هذه لقبا هو (زومانس Zomanes) .
وقد سمى (لانكدون) هذا العيد بعيد الجنون، وهوعبارة عن موكب يسير في المدينة يقوده (احد ملوك المجانين) وهو يرتدي ملابس ملكية ويحف به رجال متنكرون يقومون باعمال غير مسؤولة، ويتبع هذا الموكب جمهور في حالة الهذيان، ويبرز في هذا المشهد الاحتفالي دور (شخص غير مسؤول) هو على الارجح احد المحكومين بالاعدام يقوم بدور الملك مؤقتا بينما لا يقوم الملك الفعلي باي عمل علني، وعند انتهاء المراسيم كان هذا الملك البديل يذهب الى حتفه .
ويتحدث (هنري فرانكفورت) هو الاخر عن هرج يسود المدينة في بدء السنة الجديدة حيث كان يطلق سراح مجرم اثناء عيد السنة الجديدة بينما كان الاخر يحجز، وكان يسمح للاول ان يقوم بدور الملك وكان يتمتع اثناء هذه الفترة بكل حقوق الملك، واثناء ذلك وداخل كل بيت كان السيد يخضع لسلطة خادمه وكان الاخير هو الذي يعطي الاوامر داخل البيت.
ان عيد (الساكيا) تحكمه ظروف القهر الاجتماعي التي كان يخضع لها الانسان العراقي القديم فبقدر ما كان يبدو عاجزا عن ازالة هذا القهر الاجتماعي بسبب عجزه عن ادراك العلاقة السببية بين هذا القهر والعلاقات الاجتماعية القائمة، الى جانب عجزه عن تغيير هذه العلاقات الاجتماعية القائمة، فان الكبت كان نصيبه، ان عيد (الساكيا) يمثل في الحقيقة انموذجا للهروب من الوضع القائم الذي يقترن بوجوده وجود الكبت الى عالم اخر يضمن وجوده هذا العيد نفسه، حيث يستطيع فيه ان يخفف من هذا الكبت الذي ولدته العلاقات الاجتماعية القائمة، وذلك عن طريق التمتع بالحرية الاجتماعية المطلقة التي يعبر عنها هذا العيد بالممارسات المتطرفة التي يقترن بها والتي يبرز في طليعتها زوال التمايز الاجتماعي الذي يعبر عنه بزوال التفاوت بين السيد والخادم، وربما تغيره لصالح الخدم بقدر ما يصبح احد الناس العاديين ملكا ولو لفترة مؤقتة. ان كل هذه الممارسات تمثل في الحقيقة شكلا من اشكال التخفيف في الكبت الذي يولده التمايز الاجتماعي او هي بالاحرى تمثل العالم البديل عن العالم القائم على اساس من التمايز الاجتماعي الذي يتم الهرب منه لعدم القدرة على مواجهته بالتغيير، وهكذا فان هذه الممارسات تتضمن معنى الاحتجاج وربما التمرد على مثل هذا العالم .
( للمزيد - اضغط هنا )
Comments powered by CComment